في دوحة الإسلام (73)
في دوحة الإسلام (73)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 23/6/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
حول قصة المائدة، التي سميت سورة المائدة باسمها، نبدأ حديثنا اليوم معًا.. لنرى كيف سأل الحواريون المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، ولنعطف على ما سأله إبراهيم الخليل عليه السلام لربه، وكيف ناداه موسى عليه السلام، وماذا طلب إليه، وماذا كان الجواب الذي تلقاه كل منهما..
سبحانه إذا أراد شيئًا
يقول له كن فيكون
يقول الله تبارك وتعالى في سورة المائدة:
« إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَأيةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ » ( المائدة 112 ـ 115 )
* * *
بمثل هذا الفضول سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يريه كيف يحيى الموتى، فسأله ربه: أو لم يؤمن؟ قال: بلى إنه قد آمن ولكن ليطمئن قلبه، قال له الله عز وجل فيما يرويه القرآن الكريم: « قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » ( البقرة 260 ).
وبمثل هذا الفضول نادى موسى ربه تعالى فيما يرويه القرآن المجيد: « قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ » (الأعراف 143 ).
بيد أن سؤال الحواريين للمائدة التي سميت السورة باسمها، وهم الأتباع المخلصون المقربون، جاء عجيبًا مقرونًا بقولهم « هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ »، ولذلك كان رد المسيح عيسى ابن مريم عليهم لائمًا ومقرعًا، « اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ».. فالمؤمن لا يسأل عن قدرة الله، فأمْره عز وجل إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، وفي قصة إبراهيم عليه السلام سأل ربه أن يريه كيف يحيى الموتى، لا تشككًا في قدرته سبحانه واستطاعته، وإنما ليطمئن قلبه، كذلك موسى عليه السلام كليم الله، لم يتشكك في قدرة الخالق عز وجل، وإنما قال لربه: « أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ »، أملاً في أن تقترن المشاهدة بفضل الكلام مع الله عز وجل.
تنبه الحواريون لتقريع عيسى عليه السلام، فثابوا إلى رشدهم وسارعوا إلى بيان أن مقصدهم أن تطمئن قلوبهم إلى أنه قد صدقهم، وليكونوا من الشاهدين على تلك المائدة المنزّلة إليهم من السماء لتكون عيدًا وأية لأولهم وآخرهم..
نادى المسيح ربه عز وجل، وسأله ما سألوه، فوعده بإنزال المائدة وأنزلها عليهم، مقرونة بنذير يأتي في موضعه، أن من يكفر بعد ذلك لا عذر ولا شفيع له، فقد شهد أية لم يشاهدها أحدٌ سواه، فيكون جزاؤه إن حاد وكفر ـ عذابًا لم يعذبه ربه تبارك وتعالى لأحد من العالمين.
كل إنسان يملك مصيره ويختار طريقه، إنْ خيرًا أو شرًّا؛ بلا إرغام ولا إكراه.. فيقول الوراث الباقي لنبيه المصطفي عليه الصلاة والسلام:
« وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا »(الكهف 29).
محبة الصدّيق
وفداؤه للرسول
نقل الرواة الثقات، أن أبا بكر الصديق حين انطلق مصاحبًا النبى عليه الصلاة والسلام إلى الغار للاختباء فيه حتى تهدأ العيون، جعل يسير بين يدى النبى ساعة، ومن خلفه ساعة.
سأله الرحمة المهداة عن ذلك، فأجابه:
« أذكر الطلب ـ أي المطاردة ـ فأمشى خلفك، وأذكر الرصد فأمشى أمامك »
فقال له الرحمة المهداة حانيًا:
« أو لو كان شىء أحببتَ أن تُقْتل دونى ؟ »
قال الصديق: أي، والذي بعثك بالحق.
وإذْ انتهيا إلى الغار، سارع الصديق يقول: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار.
جعل أبو بكر يتلمس الغار بيديه، وكلما رأي أو أحس جُحْرًا، قطع قطعة من ثوبه وسدّه بها.. وحين استنفد ما لديه، فوجئ بجُحر لم يُسد، فوضع ظهره عليه لئلا يخرج منه ما يؤذى رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وضع الرحمة المهداة رأسه في حجْر أبى بكر ونام، وقيل أن أبا بكر لُدغ في رجله فلم يتحرك مخافة أن يوقظ المصطفي عليه الصلاة والسلام، وسقطت دموعه عفوًا على وجه الرسول، فانتبه عليه الصلاة والسلام وسأله حانيًا:
ما لك يا أبا بكر ؟ قال: لُدِغت، فداك أبى وأمى، فمسح عليه السلام على مكان اللدغة، ودَعَا له، وكم نال الصديق من هذا الدعاء النبوى جزاء محبته ووفائه وتصديقه وفدائه لرسول الله.
العشق المرضى للدنيا
الإسلام لا يحتقر الحياة ولا يزدريها، ولا يطَالَب المسلم ولا يرتضى منه أن يرفض الدنيا ويعزف عن السعى فيها.. فالمسلم مأمور بعمار الحياة، ويأمره القرآن الكريم بأن يكد ويسعى في دنياه ليسطر حاضره ومستقبله..
فالإسلام دين عمل، وديانة للعالمين، أراد لبنيه أن يكونوا صناع حياة، ففي القرآن المجيد: « تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أيكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ » (الملك 1، 2)، ومصير الإنسان معلق بعمله في الحياة الدنيا، وأوصى الحق تبارك وتعالى ـ أوصى نبيه المصطفي فقـال لـه: « وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ » ( التوبة 105 )، وقال لنا سبحانه وتعالى في كتابـه الحكيم: « هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِـهِ وَإِلَيْـهِ النُّشُـورُ » ( الملك 15 ).
المذموم هو العشق المرضى للدنيا، وجعلها كل هم الإنسان، حينذاك فإن عشقه هذا المريض ليس من الله في شىء، وليس من الإسلام في شىء.
قال عليه الصلاة والسلام: « الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا ماله له، ولها يجمع من لا عقل له، وعليها يعادى من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له، ولها يسعى من لا يقين له ».
المؤمن لا تغره الحياة الدنيا، مهما سعى واجتهد فيها، فما هي إلاَّ متاع الغرور، والشيطان لا يعد إلاَّ غرورًا، وفي القرآن المجيد: « فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ » ( لقمان 33، فاطر 5 ). صدق الله العظيم
لا ابتداع في الدين
ولا تكلّف
روى أن الفاروقَ عمرَ بن الخطاب، قرأ بين المسلمين قول الحق سبحانه وتعالى:
« فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا » ( عبس 27 ـ 31 ).
ثم قال للمسلمين ـ رضى الله عنه:
هذا كله عرفناه، فما الأبّ ؟ وهو المرعى، من أبٍّ إذا أَمَّ، لأنه يُؤَم ويُنْتجع، إلاَّ أن بعض السامعين بالغ وغالى..
ضرب عمر الأرض بعصاه، وقال:
« هذا لعمْرِ الله هو التكلف، فخذوا أيها الناس ما بُيِّن لكم منه، فما عرفتم اعملوا به، وما لم تعرفوا فكِلوا علمه إلى الله ».
قيل من بعض العارفين:
العاقل: من دبَّرَ أمر الدنيا بالقناعة والتسويف، ودبَّرَ أمر الآخرة بالحرص والتعجيل.
وقال الصوفي يحيى بن معاذ: من قنع بالرزق فقد ذهب بالآخرة، وطاب عيشه.
وصدق الهادى البشير عليه الصلاة والسلام إذ يقول:
« ما قلّ وكفي، خيرٌ مما كثر وأَلهي »
وهو عليه السلام القائل: « اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا »
« القناعة مال لا ينفد »
* * *
عن صُهَيب الرومى رضى الله عنه، أن النبى صلوات الله وسلامه عليه قال:
« عجبًا لأمر المؤمن ! إنّ أمْرَه كلَّه خير، وليس لأحد ذلك إلاَّ المؤمن، إن أصابته سرّاء شَكَرَ فكان ذلك خيرًا له، وإن إصابته ضرّاء صَبَر فكان ذلك خيرًا له ».
يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز:
« وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ » ( البقرة 207 ).
صدق الله العظيم