في دوحة الإسلام (72)

في دوحة الإسلام (72)

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 16/6/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

مع الصادق اللهجة، الزاهد العفيف، نصير الفقراء، الأثير لدى الهادي البشير عليه الصلاة والسلام نبدأ هذه الحلقة.. عنه قال عليه الصلوات: « ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء، أصدق لهجة من أبى ذر »

إنه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، التقى الزاهد.. صاحب السجل الناصع..

*  * *

كان أبو ذر بالفعل نسيج وحده، لم ينجرف فيما انجرف إليه الناس، ولم ينخدع بما انخدع به بعض الناس، ولم تزده الأيام إلاَ صلابة في الحق الذي اعتقده، وإصرارًا على النهج الذي به التزم.. لا يصانع ولا يداهن ولا يرائي، هو في السلم واحد من الناس، لا يسمع الناس له صوتًا، ولا يرونه إلاً قارئًا متعبدًا متنسكًا.. لا يزاحم على شيء مما يتزاحم عليه الناس.. انصرمت أعوام، وطويت صفحات الزمن، وقبض الرسول عليه الســلام، ومضت خلافـــة الصديق ثم الفاروق على سنة النبي وهديه.. لم يحص عليهما أبو ذر شيئًا، ولم ينكر منهما أمرًا.. فتفرغ للعبادة والجهـاد.. واحـدًا من الناس، لا يسعى لوجاهة ولا لصدارة.. لا يفارق زهـده، ولا تصرفـه مغريات الدنيا عن عبادته الصادقة وإخلاصه المخلص لدين الله.. قبض أبو بكر ثم عمر، ومضى زمن من خلافة عثمان رضى الله تعالى عنهم، فبدأ يرى مستحدثات لم يألفها، وأمورًا أنكرها، وثروات لم يعهدها، وترفًا مُفسدًا لسواء النفوس.. أحس الرجل نذر الخطر، وخشى على أمة الإسلام مفاتن الدنيا وغرورها وزخرفها.. فرفع راية الله، وخرج يدك معاقل الثروات ويواسى الفقراء..

مضى أبو ذر في الناس مُذكرًا بالقرآن الحكيم، مُبشرُا ونذيرًا بشؤم الكنز والترف، يتلـو على الناس آيات الله.. « وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ».. ( التوبة 34، 35 ).. يدرك بحاسته مفاسد الترف ومخاطر تغوّل سلطان المال وكنز الأموال، ومجافاة الأغنياء للفقراء.. يظــن البعض أن الإغـــراء ربمــا رده عـــن دعوتــه.. فيقول له قائل.. « يرحمك الله.. مالك ولأخوتـك من قريـش لا تعتريهم وتصيـب منهـم ؟!!».. فما يزيد على أن يقول.. « قد والله استحدثت أمور، ما رأيناها أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا آتاهـا الشيخـان » !!! « لا وربك، لا أسألهـم عـن دنيا، ولا أستفتيهم عن دين حتى ألحق بالله ورسوله »..

هـذه الشحنة الهائلـة من الصدق، والقدرة الفـذة على التزامه، حملتـه كثيرًا فاحتمل.. راجعوه فيما يقول، فأبى عليهم أن ينهوه عن قراءة كتاب الله..

فهم الصحابي الجليل بصدقه وفطرته مخاطر المال حين ينحرف عن وظيفته، وحين يكون الثراء غاية، وكنز الأموال وتعطيل حركتها أسلوبًا، ومجافاة الإحساس بفقر وحاجة الفقراء عادة مألوفة تتبلد إزاءها الضمائر وتخفت القـوى الروحية.. صحيح أن الدين لا يعـادى المـال، ولكنه أيضًا لا يواليه.. وينظر إليه على أنه وظيفة اجتماعية.

*  * *

خطورة المال أنه قوة ليس لها في نظر الناس حدود، إذ هو يمثل قوة استخـدام المجتمع وخدمـات المجتمـع، وهـى قـوة مركـزة يسهـل للآدمي أن يستعملها في تحقيق آلاف الرغبات والأغراض.. ويبقى المال في إطار وظيفته طالما التزم الفهم المجتمعي وانتظم فيـه، فإذا تحـول إلـى غايـة في ذاته، وحل في نظـر الناس حلولاً كاملاً محل العمـل، واتخذ وسيلة لقوة التحكم في الناس وفي الحياة، وحجب بالكنز عن التداول وإثراء الحياة الاقتصادية،.. تعطلت سنن الحياة، وانحرفت وظيفة المال، والتفت الناس ـ بتأثير المال ـ عن قيمة الخامة البشرية وعن قيمة دور الخامة البشرية، والتفتت الثروات الهائلة المتضخمة عن احتياجات الفقراء وعن احتياجات المجتمع وضرورات أن يكون المال سبيلاً لإنمائـه بحركتـه لا باكتنازه.. لذلك نهى القرآن الحكيم عن احتجازه فقال: « كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاء مِنكُمْ »( الحشر 7 ).

*  * *

إن الاتصال بين الدين والمال حتمي، ولكنه اتصال انتفاع واستخدام، وليس اتصــال كنز وحجب واحتكـار.. وكانت قصة أبى ذر مع معاوية بالشام، تعبيرًا حقيقيًا عن صدق فهـم الصحابـي الجليل وصـدق ولائـه لفهمه ودينه.. كان الكثيرون يصانعـون معاوية، ويتجنبون دهـاءه.. ولكـن أبا ذر لم يفعل.. أخذ في الشام يراجعه في الإسراف في بناء قصر الخضـراء، لا يلويه عن مراجعته أن يكون بناؤه من ماله، يقول له: « إن كنت قد بنيتها من مال المسلمين فهي الخيانة، وإن كنت إنما بنيتها من مالك فإنما هو الترف ».

ما من صاحب ذهب ولا فضة

روى بإسناده عن أبى هريرة رضى الله عنه، أن الهادي البشير صلوات الله وسلامه عليه قال:

« ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منها حقها ( أي زكاتها )، إلاَّ صفحت له يوم القيامة صفائح من نار، فأحمى عليها في نار جهنم، فيكوى به جنبه وجبينه وظهره ؛ حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمَّا إلى الجنة وإمَّا إلى النار ».

في هذا الحديث الشريف، تحذير شديد لمن يكنزون الذهب والفضة، ولا يؤدون الزكاة عنها.. سواء كان سبائك أم تبرًا أو نقودًا، وفيه وصف بليغ لما ينتظرهم من عذاب شديد يوم يقف الجميع في رحاب الوارث الباقي.. فهذا ذهبهم، وهذه فضتهم، تصفح لهم صفائح من نار، تكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم.. جزء هذا الكنز، ومنع الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام الخمسة.

يقول الله تعالى في كتابه العزيز:

« وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ » ( التوبة 34، 35 ) صدق الله العظيم

والزكاة عبادة مالية، عنى بها الإسلام أن يمد الغنى يده إلى الفقير بما يجبر حاجته، وإلى المصالح العامة للمجتمع بما يحققها.. وهي واجبة على الغنى فيما يفضل عن حاجته وحاجة من يعولهم وينفق عليهم.. وهي ركن من أركان الإسلام، واجبة على الذهب والفضة سبائك كانت أو تبرًا أو مصكوكات، وعلى ما يفضل من الأموال النقدية، وقيم الأعيان التجارية، والماشية وثمار الزرع، بنسب معروفة، يقوم مجموعها بحاجة الفقراء وبالمصالح العامة، ولا ترهق أربابها.

وجمهرة الفقهاء وأهل العلم، على أن المال الذي لا تؤدى زكاته يعد كنزًا، ولا يعد كذلك مهما كثر ما دامت تؤدى عليه الزكاة..

الزكاة أداءٌ لحق الله، ووفاءٌ للمجتمع، وتعبير عن صدق الانتماء إليه، وإخراجها طُهْرةٌ تطهّر مؤديها.. وبها تُنال الرحمات التي كتبها الله تعالى على نفسه لمؤدى الزكاة، فقال عز وجل:

« وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُون » ( الأعراف 156 ) صدق الله العظيم

وفي القرآن الكريم حض متكرر على أداء الزكاة، والتنفير من منعها والبخل بها.. يقول تبارك وتعالى:

« وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ » ( البينة 5 )

وبها وُصِفَ المؤمنون وأمروا بأدائها في القرآن الكريم:

« الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ » ( البقرة 3 )

« وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ » ( البقرة 43 )

وفي ثوابها يقول جل شأنه:

« وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ » ( الروم 39 )

والمضعفون هم ذوو الأضعاف المضاعفة من الثواب.

فانظر كيف حببنا الله تعالى في الزكاة، وفرض لأدائها أضعافًا مضاعفة من الثواب، وكتب على نفسه الرحمة لمن يؤديها..

اجتمعت وتجتمع للزكاة كل أسباب التكريم والأجر والمثوبة، فهي أداء لفريضة من فرائض الإسلام الخمسة وأركانه، وأداؤها قيامٌ بحق الله، ووفاءٌ للمجتمع وتعبيرٌ صادق عن الانتماء إليه، والبر بالفقراء والمساكين، والتطهر من الآفات والذنوب.

وصدق الهادي البشير عليه الصلاة والسلام إذْ يقول:

« حصّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة »

*  * *

  • من الحكم العطائية: لا تستبطئ منه النوال، ولكن استبطئ من نفسك وجـود الإقبال !
  • فرغ خاطرك للاهتمام بما أمرت، ولا تشغله بما ضُمِن لك، فإن الرزق والأجل قرينان متلازمان مضمونان.

فما دام الأجل باقيًا، كان الرزق آتيًا.

وسبحان القائل في كتابه العزيز:

« وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ » ( هود 6 ) صدق الله العظيم

زر الذهاب إلى الأعلى