في دوحة الإسلام (63)

في دوحة الإسلام (63)

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 7 / 4 / 2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

نحن على أعتاب شهر مبارك.. حين يهل تهل معه البركات والمسرات .

ترى، ما سر هذا الشهر الكريم ؟! ما هذا العبير الخاص، والمذاق المتميز والأنسام الفياضة، والأريج الذي يشيع قى الأرواح ويملأ النفوس ؟!

ألأنه شهر القرآن ؟

ألأنه شهر الصيام ؟

ألأن فيه ليلة القدر.. خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بأمر ربهم ؟

*   *    *

ليس من شك أن رمضان يمتاز بين الشهور بهذه المزايا، ولكن القرآن كما تنزل ـ بداية ـ في رمضان، نزل في غيره من الشهور..!!

والمسلم كما يصوم صوم الفريضة في رمضان، يصوم صوم النوافل والكفارات وصوم التطوع، في غير رمضان..

وصلاة المسلم وتعبده وتهجده ونسكه وإخباته، فرائض ونوافل موصولة.. ليست موقوفة على ليلة من الليالى، ولا على شهر من الشهور..!!

لماذا إذن كان لرمضان هذا السحر الخاص ؟! ولماذا كانت أنسامه ونفحاته يحسها الصائم ويحسها أيضًا من حُرِمَ نعمة الصيام

*   *    *

ثم لماذا كان الصيام فريضة.. ولماذا كانت الفريضة شهراً ؟! وفي رمضان بالذات ؟

ولماذا يكون مجمعًا في فترة محدودة، ولا يترك لاجتهاد أو ظروف المكلف بجمع أيامه على مدار العام ؟!

تكتسب هذه الأسئلة أهميتها من واقع ملموس، هو أن الكثيرين يعرفون الدين بعبادته قبل أن يعرفوه بعقائده.. بل وربما اهتدوا إلى العقائد بالعبادات نفسها، ليس فقط لأن العبادة فرع من فروع العقيدة، بل ولأنها تدل في النهاية عليها وترشد إليها..

*   *    *

وقد يكون من السهل، اختصارًا للطريق، أن نجيب بأن العبادات هي في الغالب شعائر « توقيفية » تؤخذ كما هي، بأوضاعها وهيئاتها وأشكالها.. وأنه من ثم لا ينبغى أن يقوم عليها اعتراض أو يدور حولها خلاف . فليس يمنع المعترض على أن تكون الصلاة خمسًا، من أن يعترض على أن تكون ثلاثًا أو سبعًا.. وليس يمنع المجادل في الصيام شهرًا، من أن يجادل في الصيام أسبوعًا أو ستة أسابيع.. وهكذا

*   *    *

إلا أن ذلك لا ينفي أن العبادات لها غايات، وأنها في غاياتها وأهدافها قد تخضع لمعايير المفاضلة فيما بينها..

فالصلاة.. مثلاً، أُم العبادات، وأولى القربات..

ومع فضل الصلاة بين العبادات، فضلت صلاة الجماعة على صلاة الفرد..

ولا شك أن للفضلين، فضل الصلاة ككل، وفضل صلاة الجماعة، أسبابًا.. عنها تحدث القرآن والسنة.. وفيها وفي بيانها اجتهد الفقهاء والعلماء..

كذلك الصيام.. وكل العبادات..

*   *    *

فمن المعلوم أن الفريضة الدينية في مجملها « أدب » يتغيا صلاح الفرد أو صلاح الجماعة، وإذا كان هذا هو شأن العبادات الدينية عمومًا، فإن العبادات الإسلامية تتميز بجمعها بين الغايتين.. فهي تجعل من صلاح الفرد وسيلة لصلاح المجموع، ثم هي لا تغفل حساب المجموع في أغراضها المباشرة وفي أوضاعها وهيئاتها وأشكالها..

*   *    *

فالصلاة عبادة فردية، ولكنها أكرم بالجماعة في مواقيتها الخمسة بالمساجد.. ولا تغفل أداء المجموع كأصل في بعض مناسباتها كصلاة الجمعة والعيدين.. ثم هي في أدائها « الفردى » آصرة معنوية تربط بين جميع المصلين في شتى بقاع الأرض، ويستقبلون فيها قبلة واحدة..

كذلك الزكاة.. هي وإن كانت فريضة فردية إلاَّ أنها في خدمة الجماعة ومصالحها .

والحج عبادة جماعية، أو هي مؤتمر عالمى يأتلف فيه المسلمون من كل عام، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله..

*   *    *

والصيام.. فريضة تعبدية يؤديها الفرد.. فيها رياضة بدنية ونفسية وروحية.. ولها من غير شك أهدافها المرعية في تأديب الفرد وصلاحه.. فهي تعبير متعدد الجوانب عن الخضوع لربوبية الخالق البارئ، والامتثال لأوامره.. وهي صلة روحية وجسر بين العبد وربه.. وهي رياضة للنفس على قوة الاحتمال وكبح الشهوات والرغبات.. وهي سياحة روحية تسكن خلالها أو تتوارى مطالب الحس والبدن وتنطلق سبحات الروح والوجدان.. وهي صلاح للجسد والأعضاء برعاية دورية تخفف عنه سرف وإفراط العام.. كل هذه وغيرها انعكاسات مباشرة للصيام على الفرد الصائم..

*   *    *

بيد أننا لا نلحظ في الصوم هذا الجانب الفردى وكفي.. وإنما هو فريضة ملحوظة الرعاية للمجموع.. أو هي ذات مظهر اجتماعي واضح، في أهدافها، وفي أدائها..

وأجلى المظاهر والانعكاسات الاجتماعية للصيام، هو أداؤه في توقيت واحد من شهر واحد.. تبدو فيه الجماعة الإسلامية، على اتساع الأرض، أسرة واحدة من ألوف الملايين.. تؤدى شعائر دينية واحدة، تتصل بأسس حياة الإنسان نفسه في مطالبه الحياتية اليومية.. في أكله وشرابه ومطالب جسده.. يصوم الجميع في وقت واحد، عن طعامهم وشرابهم.. ويأتلفون في رحلة تعبدية لا رفث فيها ولا فسوق.. ولا صخب ولا تشاحن ولا قتال..وإنما هم جميعا منصرفون إلى تحنثهم.. يعبدون الله مخلصين له الدين.. فإذا أفطروا أفطروا في ميقات واحد.. وعلى سُنَّةٍ واحدة.. فأي مظهر لوحدة الجماعة، أجمل وأعظم وأعمق من هذا المظهر.. !!

وأي فريضة تعبدية تروض الأفراد، وتأتلف الجموع، خيرًا من هذه الفريضة في هذا الشهر الكريم ؟!!

*   *    *

إنه شهر تجتمع فيه، للفرد والجماعة، كل أركان الفرائض والعبادات في شحنة مكثفة مركزة من الدعاء والصلاة.. من التشهد والصيام.. من استقبال البيت الحرام في كل دعاء وصلاة بقلوب الداعين المصلين.. كل ذلك في إطار يحس فيه الفرد أكثر ما يحس بآصرته بالمجموع الذي يصوم وإياهم في وقت واحد، ويفطر معهم في ميقات واحد..

تتلاقى أدعيتهم وصلواتهم في معارج السماء صاعدة إلى رب العالمين، في ترتيلات وضراعات وابتهالات كأنها معزوفة واحدة يطلقها عباد الرحمن على نسق واحد تتجاوب أصداؤها في عنان السماء .

في شهر هو على الله كريم.. فيه نزل القرآن، وفيه كانت بينات من الهدى والفرقان..

*   *    *

شهر رمضان، هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وفي ليلة القدر، يقول الحق تبارك وتعالى : ـ « شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » (البقرة 185).

وهو شهر ليلة القدر..

هو شهر الجود والمواساة.. شهر الابتهال والدعاء.. شهر التعبد والتهجد والإخبات.. هو هذا كله.. وهو شهر تلك الفريضة والرياضة البدنية والنفسية والروحية التي يتلاقى فيها صلاح الفرد مع وحدة صلاح الجماعة..

كل هذه المعانى التي تتجمع مركزة مكثفة في رمضان، هي سر هذا الشهر المبارك الذي يغذى بعبقه وأنسامه وأريجه نفحات الروح ويصل ما بين الفرد والجماعة.. في إيقاع من سبحات هذا الشهر الكريم..

*   *    *

إن العبادة المثلى ترنو إلى تنبيه الضمير الإنساني إلى وجوده الروحى وإلى أن له مطالب غير مطالب الجسد وشهوات الحيوان، وإن العبادة المثلى لترنو أيضاً إلى تنبيه الضمير الإنساني إلى الوجود الخالد الباقي الذي يتوارى أمامه وجوده الفردى الزائل المحدد..

فبغير الوجود الروحى، والوجود الخالد الباقي، لا يمكن لآدمى أن يترقى من البهيمية إلى الإنسانية، ولا أن يرتفع بعقيدته وسلوكه إلى المراتب الجديرة ببنى الإنسان.. كيف يمكن لآدمى أن يحيا ساعة بساعة، وتستغرقه ماديات الدنيا، ثم يرجو من الحياة معنى خالداً باقياً غير متعة اللحظة.. كيف يمكن له بغير هذا الوجود الروحى أن يحرص على معنى يحفزه أو يردعه.. يرغبه أو يرهبه ؟!

*   *    *

كمال الصيام الإسلامى، أنه ينبه الضمير الإنساني إلى هاتين الحقيقتين..

حقيقة الوجود الروحى.. بصوم يقمع في الجسد مطالب الحس والمادة ويروضها.. ويثرى كل جوانب الروح..

وحقيقة الوجود الخالد الباقي.. في ائتلاف الفرد مع الجماعة، ائتلافًا يحس به بعمق انتمائه إلى المجموع الخالد الباقي مهما تغيرت على الزمان عناصر الأفراد فيه..

في خضوعه لربوبية الوارث الباقي الذي إليه سبحانه ميراث السموات والأرض.. حيث الكل في زوال، ولا يبقى إلا وجهه ذو الجلال والإكرام..

فالمسلم في صيامه يذكر حق الروح، ويذكر أنه ذو إرادة ينبغى أن تأخذ بزمام جسدها لا العكس.. ويذكر وجودًا ـ أبقى من وجود ذاته.. وجود الجماعة وجودًا موصولاً أبعد من وجوده، ولو إلى حين، ووجودًا سرمديا للواحد الأحد رب العالمين..

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى