في دوحة الإسلام (51)

في دوحة الإسلام (51)

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 13/1/2021

بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين

ليس كل من آمن بدين، على علمْ كامل بمبادئ وقيم وأحكام دينه، ولكنه يبقى بخير ما داوم على حب السؤال والإطلال على ما لا يعرف، ومعرفة أسراره وحكمه.. ولكن هناك من يضل بهم سعيهم وينصرفون عارفين أو غير عارفين ـ عن لب الإسلام وجوهره !!

لب الإسلام

والذين يتصلبون ويتطرفون من المسلمين، يبتعدون دون وعى أو إدراك عن الإسلام.. فالإسلام أبعد ما يكون عن التعصب والتطرف والتصلب، ومنظومته الأخلاقية كدين للعالمين قد عبرت عن هذا الاتساع الكوني لرسالة الإسلام في المكان وفي الزمن، من خلال وسطيته وسنن الرفق واللين والإسماح.. فالدين لا يسعى لفرض الإيمان بالقسر أو بالإرغام، ولا يجبر أحداً على اعتناقه: « ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ » (النحل 125).. والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما عليه إلاَّ البلاغ: « إِنْ عَلَيْكَ إلاّ الْبَلاغُ » ( الشورى 48)، « إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ * إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا »( فاطر 23، 24 )..« لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء » ( البقرة 272 ).. « لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ » ( البقرة 256).. « أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ » ( يونس 99)..« قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ » (يونس 108) .

* * *

فالمسلم غنى بهدايته، لا يفقره ولا يضره ضلال غيره.. « عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ » ( المائدة 105)..

والإسلام لا يعادى الديانات والرسالات التي نزلت قبل الإسلام.. ففي القرآن المجيد: « آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ » (البقرة 285)..

« قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » (البقرة 136) .

* * *

والمسلم آلف ومألوف، وفي الحديث الشريف: « المسلم آلف ومألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ».. « إن أقربكم منى مجلسًا أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون ».. الرفق دستوره وشيمته: « ما دخل الرفق في شيء إلاَّ زانه، وما خرج منه إلاَّ شانه ».. وتعاون المسلم هو على البر والمعروف لا على الإثم والعدوان.. فيقول عز من قائل: « وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ » ( المائدة 2 ).. واختلاف الناس سنة كونية ليست محلاً لعداوة أو خصام أو عراك.. فقال القرآن المجيد: « وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ » ( هود 118).. وعلاقة المسلم بأهل الكتاب علاقة صلة وتعايش: « الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ » ( المائدة 5 ) .

* * *

والدين نفسه قوامه اليسر لا العسر أو التعسير، وفي حديث المصطفي ـ صلى الله عليه وسلم: « إن هذا الدين متين، ولن يشاد الدين أحداً إلاَّ غلبه، فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا زهر أبقى ».. والله سبحانه وتعالى يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه .

مشاهد عمرية

كتب الفاروق عمر بن الخطاب، إلى واليه أبى موسى الأشعري، يوصيه ويأمره، فاستهل خطابه إليه بأن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته، وأشقاهم من شقيت به رعيته..

هذه الرؤية منبعها الهادي البشير عليه الصلاة والسلام، حين قال لصاحبه أبى ذر الغفاري عن الولاية: إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزىٌ وندامة، إلاَّ من أخذها بحقه، وأدى الذي عليه فيها .

قالوا عن عمر نفسه، إنه عدل فعدلت الرعية.. وأنه حمل أحمالاً ثقالاً ليخفف عن رعيته، فسعدت رعيته وقرت عينه بسعادة الرعية.. وكان همه الأول يوم طعن أن يعرف ما وراء طعنه، خشية أن يكون في عنقه ما برَّر اغتياله، ولم يطمئن إلاَّ حينما عرف أنه المجوسي، وأنه طعنه بغير مأخذ أو حجة عليه..

* * *

أضاف الفاروق في كتابه إلى الأشعري ينبهه ويشرح له ما يمكن أن يسوء به أمر الرعية.. إذ قال حكماء الزمن الأول إن الناس على دين ملوكهم، فلا يصلح العود والجذر أو العود أعوج . قال عمر لصاحبه يحذره من أن يرتع فترتع الرعية، وفي ذلك حتفه.. مثلُه كمثل البهيمة التي ترتع في خضرة الأرض لتأكل وتسمن، دون أن تعي أن في هذه السمنة حتفها!!

* * *

مراقبة النفس تقيها من الطمع والانفلات، ومن الوقوع في وهدة الأخطاء والآثام..

وقد كان الرحمة المهداة ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: « ما من راع يسترعيه الله رعيته ؛ يموت يوم يموت وهو غاشٌ لها، إلاَّ حرم الله عليه رائحة الجنة » .

وخير المال ــ فيما أوصانا الهادي البشير عليه الصلاة والسلام، هو اللسان الذاكر والقلب الشاكر.

الإخلاص والسعي إلى الحق يعلم المسلم بحكم عمار الدين في وجدانه، متى يقول نعم ومتى يقول لا.. وأنه لا يستطيع أن يستغنى فيما يقول ويفعل عن الاستناد إلى الحق.. فالإخلاص معلم أساسي في الإسلام، وهذا الإخلاص هو بوصلة سعيه باسم الحق والمصلحة الحقيقية.. وأشواق المسلم السوي المخلص في توغلها وراء الحقيقة تسحب العقل والروح من السطح إلى الأعماق.. وتعطيهما العمق الذي يحصن الروح ضد الإحساس بالجدب والتفاهة والهوان.. وكلما توغلت الروح في طلب الحقيقة تجردت الحقيقـة من القيود التي تفرضها الظروف، وتجلى نور الحق المطلق غير المشروط .

* * *

هذا الحق يسبق ما سواه، ولا ينبغي أن يزاحمه شيء، وهو بذاته وراء وفوق كل حجة أو برهان.. وإذا أخذنا الإحساس بحقائق عالم الغيب كمقياس أو دليل، سنرى أننا لا نحس هذه الحقائق الغيبية إلاَّ حين يملأ قلوبنا التواضع والإخلاص والشعور بروعة جلال الحياة والكون.. حين نتقى الصلف والغطرسة والانحصار في الذات، ونترك عدم المبالاة . فهذه الحقائق لا يلم بها ويدركها غير المتيقن، اللاهى عن السعي إليها باستقامة وإخلاص .

* * *

يقول الله تعالى لنبيه المصطفي عليه الصلاة والسلام:

« إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ » (الزمر 2، 3 ) صدق الله العظيم

العبادة الخالصة

قال أبو طالب المكي: روى لنا عن رابعة العدوية، وكانت إحدى المحبين وكان سفيان الثورى يجلس بين يديها ويقول: علمينا مما أفادك الله من طرائف الحكمة فقال لها: لكلِّ عبدٍ شريطة ولكلِّ إيمانٍ حقيقة، فما حقيقة إيمانك ؟ فقالت: ما عبدت الله خوفاً من النار فأكون كعبد السوء إن خاف عمل، ولا حبا في الجنة فأكون كالأجير السوء إن أُعْطِىَ عمل، ولكن عبدته حبًا له وشوقًا إليه .

* * *

رب مؤمنٍ لا يملك شيئًا

ولا يملكه شىءٌ

المحبةُ هى الجسرُ الذي يؤلف بين القلوب

ويفشى السلام

ويطهرُ النفوسَ من أدرانِ الحقد

ومن آسباب البغضاء والعداوة

لا إيمان بلا محبة

ولا محبة بلا تآلف ومودة

وفي حديث الهادى البشير عليه الصلاة والسلام:

« لا تؤمنوا حتى تحابوا..

ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟

أفشوا السلام بينكم » .

 

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى