في دوحة الإسلام (29)
في دوحة الإسلام (29)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 12/8/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
اخترت أن نبدأ بسنة الله تعالى في كونه، فقد أرادت مشيئة الله تعالى أن يجرى كونه على سنة الأسباب، والسبب والمسبب، حتى لا يخلد الإنسان، وتخلد المخلوقات، إلى القعود عن السعي والعمل والجد لتتوافر لهم أسباب الحياة.. بل وأرادت مشيئته سبحانه أن يبلو عباده وأن يمتحنهم ويقويهم على الصبر وقوة احتمال الشدائد، فقال عز وجل في كتابه العزيز:
«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (البقرة 155 ـ 157).
قرنت الآيات الكريمة الإخبار بما قد يصادفنا من الشدائد، ببشارة الحق جل وعلا للصابرين على ما يصيبهم من مصائب، وحملت البشارة الربانية أقصى ما يتمناه المؤمن: صلوات ربه عليه، ورحمته سبحانه، وفلاحه في الدنيا والآخرة.
ودلت الآيات على أن «الصبر» عُدّة المؤمن في مواجهة الشدائد، هذا الصبر مجاهدة ورياضة للنفس، مصحوبة بقوة الإرادة، فضعيف الإيمان يجزع ولا يقوى على الصبر.
الصبر فى الحديث النبوي «نصف الإيمان، وهو مفتاح الفـرج، واليقيـن هـو الإيمان كله».
ولذلك نرى الصبر دعاء المؤمنين إلى الله تعالى:
«رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا» (البقرة 250)
وبه أمر الحق عز وجل، فقال لنبيه المصطفى: «اصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ» (النحل 127)
ووعد الصابرين بأجزل الأجر والثواب فقال سبحانه: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ» (الزمر 10)
فهم عمر بن الخطاب قانون السببية في الكون، فهمها الصحيح، فكان يقول إن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وقال لجماعة من الفارغين الذين تركوا العمل بزعم أنهم متوكلون: «بل أنتم متواكلون، إنما المتوكل من ألقى حبة في الأرض، وتوكله على ربه».
وكان عليه الصلاة والسلام يوصي فيقول: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا»، بهذه القوة الحميدة، والسعي المخلص، والصبر والجلد، أقام الإسلام منظومة كاملة لمواجهة الشدائد والمخاوف، ليخرج المؤمن منها أكثر قوة واعتدالاً، وأكثر امتنانًا وقربًا من الله.
الطمأنينة
الطمأنينة في القرآن الكريم محصلة من محصلات الإيمان، وثمرة من ثمراته.. فهي نفحة من نفحات اليقين بالحق الذي لا يخالجه ظن، والأمان الذي يبعثه في النفس فلا يخالجها خوف ولا حزن ولا فزع، وهي بذلك خُلُق من أخلاق المؤمنين الذاكرين.. يقول تبارك وتعالى في محكم تنزيله:
«الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد 28).
فالطمأنينة تعني السكون والاستقرار، ولا يتأتى ذلك إلا إذا ارتاح القلب إلى ما يرضيه ويحسر القلق عنه، وذلك غير ميسور في أمور الدنيا وأحوالها، لأن ما من درجة من درجات السعادة فيها إلاَّ وفوقها درجات، أما إذا انتهى القلب والعقل والوجدان إلى السعادة بالمعارف الإلهية والأنوار الصمدية، بلغت النفس لذلك منتهاها، وملأت الطمأنينة الحقة حناياها.. يقول سهل بن عبد الله رضى الله عنه «إذا سكن قلب العبد إلى مولاه، واطمأن إليه، قويت حال العبد، فإذا قويت أنس بالعبد كل شيء».
إن الطمأنينة حصيلة ليقين النفس وإخباتها لرب العالمين وللذكر الذي تستحضر به عظمة الحق جل شأنه، وتتدبر آياته، وتهتدى به إلى ملكوته وقدرته، وللأمل والرجاء الذي يملأ وجدان الذاكر في رحمته ولطفه بعباده.. فليس وراء هذه الأنوار شيء تتطلع إليه النفس، ولا أمر تخاف أو تجزع منه، لذلك فإن النفس المطمئنة لا تحزن على ما فات، ولا يملأها الفرح والخيلاء بما هو كائن، ولا تخاف مما هو آت، كما أنها لا تمل معافاة الشرور والآثام، ولا مجانبة الرذائل.. لأن الطمأنينة والإثم لا يجتمعان، فالإثم حيرة، والبر سكينة ، وفي الحديث الشريف: «الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس، والبر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب».
فالطمأنينة فضلاً عن كونها سلاحًا داخليًّا يملأ النفس سكينةً واستقرارًا، فإنها عاصم يؤنس العبد ويكلأه في سيره على صراط الصلاح، ويقويه على ترك المعاصي والذنوب… فكانت النفس المطمئنة خليقة لذلك بأن يخاطبها المولى تبارك وتعالى بقوله في محكم تنزيله: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي» (الفجر 27 ـ 30).
فهذه الطمأنينة لا تكون إلا لنفس ملأها الإيمان والإخلاص وأيقنت أن الله تعالى ربها وإليه سبحانه مآلها، فأخبتت إليه وسارت على هديـه، ورضيت بقضائـه عالمـةً أن ما أخطأها لم يكن ليصيبهـا، وما أصابها لم يكن ليخطئها، يقينًا بما وعد الله في كتابه، واجتهدت لمرضاته واثقة بالبعث وما لها عنده سبحانه من أجر ومثوبة، فحق لها من ثم أن تزكى هذه التزكية، وأن تدعى إلى دخول الجنة راضية مرضيّة.
لقد وصف لنا القرآن الكريم أجلى وأعلى صور الطمأنينة التي مبعثها الإيمان واليقين في نصرة الحق سبحانه وتعالى.. حين صور المصطفى عليه الصلوات مع صاحبه في الغار، والأخطار تحدق بهما من كل جانب، فما اختلج له عليه الصلوات طرف -ولا اهتز له جنان- وإنما خاطب الصديق في ثقة وثبات، يقول له فيما تقصه الآيات البينـات: «إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (التوبة ـ 40) .
تقوى حاكم
آب الخليفة عبد الرحمن الناصر إلى قصره بعد الصلاة، وهو حانق على ما سمعه من قاضيه منذر بن سعيد في موعظته، واعتبر الخليفة أنه المعنى به.
وبحماس الشباب، استقبل ابن الخليفة هذا الغضب، فزاده اشتعالاً، وطفق يعتب على أبيه أنه برفقه وحلمه معه، قد أطمعه فيه، وجعل الابن يحرض أباه على عزله من الصلاة بالناس واستبداله بغيره.
ولكن الخليفة ثاب إلى هدوئه، واستأنف يقول لنجله أمام الحاضرين: الناصر:
أمثل منذر بن سعيد في خيره وفضله وعلمه -لا أم لك- يعزل لإرضاء نفس ناكبة على الرشد، سالكة غير القصد ؟ هذا ما لا يكون، والله إنه ما ابتغى إلاَّ وجه الله بحديثه.. وإني لأستحي من الله أن أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة غير منذر في ورعه وصدقه.. بل يصلي بنا وبالناس حياته وحياتنا إن شاء الله.
* * *
- لا يبلغ العبد حقيقة التواضع، إلاَّ عند لمعان نور المشاهدة في قلبه، فعند ذلك تذوب النفس، وفي ذوبانها صفاؤها من غشِّ الكبْر والعُجب، فتلين وتطيع للحق والخلق.
- قيل إن لكل إنسان جوهرًا، وجوهره عقله، وجوهر العقل الصبر.
- من حديث الصادق المصدوق إلى عائشة عليها الرضوان: «يا عائشة، إن من شرِّ الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه».
- أكثر ما يكون الخطأ من متابعة الهوى.
- من ذابت نفسه بنور الزهد، انمحى الغل من باطنه، وبرئ من المنافسات الدنيوية، قال تعالى في وصف المتقين: «وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ» (الأعراف 43)
هؤلاء هم المتقون الذين صفت نفوسهم وصح توجههم إلى الله.