فى دوحة الإسلام (98).. في الإسلام شتان بين الفن والوثنية
بقلم/ الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 22/12/2021
الإسلام عقيدة التوحيد ، ينهى نهيًا جازمًا عن الكفر وعن الإشراك بالله ، ولكنه لا ينهى عن الكمال والجمال ولا يدعو للقبح أو يقبله بل يقدر الجمال ولا ينهى عن تذوقه ، ومن يتابع آيات القرآن الحكيم يجد عشرات الآيات التى قبحت الكفر وشجبته ، ونهت عن الإشراك بالله وقبحته ، ولكنه لن يجد آية واحدة تقبح الجمال أو تنهى عنه ..
فى الكفر وعدم الشرك بالله ، ورد فيما ورد بآيات القرآن الكريم :
« وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ » (آل عمران 97)
« فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » (البقرة 258)
« لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ » (المائدة 73)
« مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ » (الروم 44)
« أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ … » (الكهف 37)
« وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ » (إبراهيم 7)
« وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ » (البقرة 39)
والإشراك فرع على الكفر ، فهو نوع منه ، وفى هذا الشرك يقول القرآن المجيد :
« قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ » (الرعد 36)
« لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا » (الكهف 38)
« قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا » (الجن 20)
« وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا » (النساء 36)
ويلاحظ القارئ المتمعن المتأمل فى القرآن الحكيم ، أن النهى عن الأصنام وما شابهها ، جاء مقرونًا بعبادتها أو التعبد والتوسل بها إلى الله .. أو اتخاذها سبيلاً للإشراك به جل وعلا .. قال تعالى :
« رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ » (إبراهيم 35)
« وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً » (الأنعام 74)
« قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ » (الشعراء 71)
وتلحق الأنصاب بالأصنام ، فجاء النهى الصريح عنها لما فيها من إشراك : فالنصب هو ما نصب وعبد من دون الله ، وما كان يذبح عليه من الأوثان فى الجاهلية .
وورد ضمن المحرمات فى القـرآن : « وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ » (المائدة 3) .. فمرجع التحريم والنهى عنها واضح لما يلابس هذا الدور الذى كانت متخذة فيه ، لذلك ورد فى القرآن المجيد : « إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ » (المائدة 90)
وهذا النهى ، وكما هو واضح بالآيات القرآنية ، لا يقصد النقش أو المثال أو الهيئة ، وإنما يقصد الكفر الملازم لعبادتها والإشراك بها . وليس فى القرآن الحكيم ، ولا فى السنة ، تقبيح للجمال أو نهى عن تذوقه، فالجمال آية من آيات الله ، تدل على بديع خلقه ، وإلى ما أودعه فى مخلوقاته من قدرة على محاكاة الجمال والإبداع فيه ، وهو يدلى إلى الإيمان لا إلى الكفر أو الإشراك بالله ، وتجد كلمة جميل متعددة فى القرآن ، فوصف بها العبـد فى « فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ » (يوسف 18) . « فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا » (يوسف 83) . « فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً » (المعارج 5) .. ووصف بها الصفح : « فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ » (الحجر 85) .. ووصف بها التسريح بإحسـان : « فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً » (الأحزاب 28) ، « فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً » (الأحزاب 49) .
والأصنام والصور التى هدمت أو أزيلت من الكعبة يوم فتح مكة ، أو ما هدم من الأصنام فى شبه الجزيرة العربية ، لم يكن لجمالٍ أو بهاءٍ أو حُسْن فيها ، وإنما لأنها كانت تُعبد من دون الله ، أو تتخذ شفاعة إليه أو إشراكًا به عز وجل . وهذه المعانى غابت وتغيب عمن يتخذون موقفًا معاديًا من الأعمال الفنية التشكيلية دون بحث أو تفرقة ، فهى إن كانت تنشد جمالاً وإبداعًا فإن ذلك يستحضر الإيمان ولا يعاديه ، ويدعو للتأمل وتذوق ما أودعه الله فى مخلوقاته من قدرات إبداعية ، ولا يدعو للكفر أو الإلحاد أو الإشراك !!
الفن والجمال شىء آخر غير الكفر والإشراك ..
إن ما أنتجه عباقرة البشرية على مدى العصور ، من تماثيل ولوحات وصور وأعمال تشكيلية بلا تجسيد أو إشراك ، إبداع فنى صرف ، لم يُقصد به أن يكون أصنامًا أو أنصابًا أو صورًا أو تماثيل تُعبد ، أو أن تكون تكئة أو ذريعة أو وسيلة أو قربانًا للإشراك بالله عز وجل ، وإنما هى إبداعات فنية تستحضر الإيمان بالله ولا تنحيه ، وأول ما تلحظه من رد فعل المعجب بشىء من هذه الإبداعات أن يخرج منه تلقائيًّا لفظ : « الله ».. هذا النطق بلفظ الجلالة يورى بأن قدرة الله تعالى هى أول ما يرد إلى خاطر ووجدان المعجب بهذه الإبداعات الفنية وليس الإشراك بالله .. والعياذ بالله .
هذا والبحث الفقهى فى حكم الشرع بالنسبة للتماثيل والصور قديم ، تحدث فيه علماء بين متشدد وغير متشدد ، واستند كل منهم إلى ما يعتقد أنه حجة تؤيد رأيه .
بيد أن الفقهاء يتحدثون عن علم وحجة ، لا عن لغو وسفسطة وجهالة كما يفعـل البعض ..
أفتى فضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على ، فى فتوى رسمية منشورة بكتاب الفتاوى الإسلامية ـ فى 11 مايو 1980 ـ بأن ما ورد بالقرآن المجيد كان ذمًّا وتحريمًا لعبادة الأوثان ، واتخاذها آلهة من دون الله ، وأضاف بالنسبة للتصوير الضوئى والرسم المعروف الآن ـ فلا بأس به متى كان لأغراض عملية مفيدة للناس ، وخلت الصور من مظاهر التعظيم ومظنة العبادة ، وأن النهى عن نحت أو حفر تمثال كامل لإنسان أو حيوان ، كان لذات التخوف ، بدليل أن الحديث يقول : « أحيوا ما خلقتم » ، فالعلّة هنا واضحة يكمن فيها معنى الخلق والعبادة ، وأن التحريم كان سدًا لذريعة عبادة التماثيل واتخاذها وسيلة للتقرب إلى الله .
وأضاف فضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق أن آثار البشرية للأمم الموغلة فى القدم ـ قد ملأت جنبات الأرض صناعةً وعمرانًا ، وأن السابقين قد لجأوا إلى تسجيل تاريخهم اجتماعيًا وسياسيًا وحربيًا نقوشًا ورسومًا ونحتًا على الحجارة ، وأن دراسة تاريخ أولئك السابقين والتعرف على ما وصلوا إليه من علوم وفنون أمر يدفع الإنسانية إلى المزيد من التقدم العلمى والحضارى النافع ، وقد لفت القرآن الكريم فى كثير من آياته إلى السير فى الأرض ودراسة آثار الأمم السابقة والاعتبار والانتفاع بتلك الآثار ، ولا تتحقق وتكتمل هذه الدراسة الجادة إلاَّ بالاحتفاظ بآثارهم سجلاً وتاريخًا ، وأن إقامة المتاحف من ثم ـ هى ضرورة يفرضها ما تقدم ، ولا حرج كذلك فى الدمى التى يلعب بها الأطفال من البنين والبنات ، فلا معنى للعبادة فيها ، وانتهى فضيلة الإمام ـ وكان ذلك فى سنة 1980 ـ إلى أن الإسلام لا يحرم إقامة المتاحف بوجه عام ، ولا يحرم عرض أى أثر من الآثار ، ولا يحرم المتاحف ولا عرض التماثيل والصور المجسمة بالمتاحف للتاريخ والدراسة .
كتب فضيلة الإمام محمد عبده مقالاً فى مجلة المنار ، عقب زيارته عام 1903 لمتحف صقلية وما رآه فيه من تماثيل كثيرة ـ كتب يقول إنه لم تعد هناك علّة للتحريم بعد أن صارت التماثيل جزءًا من العلم ومن ذاكرة الأمة التاريخية .
وفى جلسة عقدت بمجمع البحوث الإسلامية وحضرتها ، فى العشرين من جمادى الآخر 1431 هـ الموافق الثالث من يونيو 2010 ، اتفق كبار العلماء بعد البحث والتمحيص والمناقشة ، على أن الوثن هو المحرم ، وأن المسلمين لم يقصروا عندما عاشوا مئات السنين جنبًا إلى جنب مع تمثال أبى الهول وغيره ، ومن قبلهم الرعيل الأول الذين لم يهدموا أضرحة ولا كسروا تماثيل من تراث البشرية ، نحتت للفن والجمال لا للعبادة والشرك .
وانتهى مجمع البحوث الإسلامية بتلك الجلسة ، إلى أن تحريم صناعة التماثيل سلفًا إنما كان تقية لقرب العهد بعبادتها ، وأنه إذا كان التمثال عملاً فنيًّا لأغراض الفن أو السياحة أو حضارة الأمم لا للتعبد والتعظيم، فقد انتفت العلّة فى التحريم أو التحفظ .
إن بعض المشركين ، عبدوا الشمس والكواكب فى بعض الأزمان ، فلم يستطع أحد أن يزيل الشمس أو يطفئ شروقها أو يقصى الكواكب عن أفلاكها ، ثم دار الزمان ، فانتهت هذه العبادات الضريرة ، وبقيت الشمس والكواكب دائرة فى أفلاكها فى هذا الكون العظيم الذى أبدعه الخالق البارئ المصور ـ جل شأنه .
العارف بالله شجاع ؛
وكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت ؟؟!!!
وهو كريم جواد ؛
وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل ؟؟!!!
وهو عنوان للصفح ؛
وكيف لا ونفسه آكبر من أن تجرحها زلّة بشر ؟؟!!!
وهو بمنأى عن الأحقاد ؛
وكيف لا وذكره مشغول بالحق ؟؟!!!
لا ينشغل فى ذكره لله عما سواه !!!