فى دوحة الإسلام (91).. التطهر بالابتلاء
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 3/11/2021
ــــ
بقلم نقيب المحامين، الأستاذ : رجائى عطية
التطهر بالابتلاء
فى فقه العارفين أن الله تعالى لا يبتلى عبده ليقتله ، وإنما ليمتحنه وليطهره ..
مواجهة الشدائد والصبر عليها تكشف حقيقة الإنسان ، وتربيه وتقويه ، وتكشف عن مدى ودرجة إيمانه ..
الإيمان ليس كلمة تُقال ، وإنما نور يملأ القلب ، وتصديق ويقين وثقة فـى الله عز وجل .
فى خطاب ربانى إلى الهادى البشير عليه الصلاة والسلام ، يقول له الحق عز وجل :
« قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ » (الحجرات 14) صدق الله العظيم
الأعراب هم سكان البادية ، جمع أعرابى وهو غير العربى ، وكلمة « لاَ يَلِتْكُم » فى الآية الكريمة أى لا ينقصكم ..
وخطاب الآية الكريمة إلى الهادى البشير عليه الصلاة والسلام ، ليبسط للقائلين معنى وتبعات الإيمان ، فيقول لهم : لم تؤمنوا بعد ، إذ أن الإيمان تصديق مع ثقة وطمأنينة ، ولم يحصل لكم ذلك بعد ، وإنما أسلمتم فقط بمعنى الانقياد والدخول فى السلم . فإن أطاعوا الله ورسوله بالإخلاص وترك النفاق ، لا ينقص الله من أجور أعمالهم شيئًا ، فالله عز وجل هو الغفور الرحيم ..
وتبسط الآية التالية من سورة الحجرات ، معنى الإيمان وتبعاته ، فيقول عز وجل :
« إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ » (الحجرات 15) صدق الله العظيم
لا يصبر على الابتلاء بالشدائد إلاَّ المؤمن .
وكما يصبر على الابتلاء بالشدائد ، لا يغتر ولا يشرد ولا يُفتن بالابتلاء بالنعم .. فالله تعالى يبتلى عباده بالمحن والنعم ..
والمؤمن قوى الإيمان يثبت للابتلاء ، لا يجزع إن كان فى محنة ، ولا يغتر إن كان بنعمة ..
عبر الفاروق عمر بن الخطاب عن وجوب الصبر وعدم الجزع بقوله :
« إنْ جزعت مضى أمر الله وكنت مأزورًا ـ أى مشدود الأزر ، وإنْ صبرت مضى أمر الله وكنت مأجورًا » .
المؤمن الحق يصبر عند العسر والشدة ، ويجاهد ولا يضجر ولا يضعف ، ويحمد الله ويشكره عند اليسر والرخاء .
يقول تبارك وتعالى فى كتابه العزيز :
« لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ » ( إبراهيم 7 )
وفى حديث الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام :
« عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذلك لأحد إلاَّ المؤمن : إنْ إصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ، وإنْ أصابته سراء شكر فكان خيرًا له » .
وقد يكون فى الضر الظاهر ، حكمة خفيّة أو خيرٌ قادم ..
يقول الحكيم الخبير فى كتابه العزيز :
« وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ » ( البقرة 216 )
وصدق عز وجل إذ يقول فى كتابه المبين :
« قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُـوَ مَوْلاَنَا وَعَلَـى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ » ( التوبة 51 ).
حرمة الظلم
عن أبى ذر الغفارى عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما روى عن الله تبارك وتعالى ـ أنه قال : « يا عبادى إنى حرَّمتُ الظلم على نفسـى ، وجعلتـُه بينكـم محرمًا فلا تَظَّالموا ، يا عبادى .. كلكم ضالٌ إلاَّ من هديتُه فاستهدونى أهدكم ، يا عبادى كلكم جائع إلاَّ من أطعمتُه فاستطعمونى أطعمكم ، يا عبادى .. كلكم عارٍ إلاَّ من كسوتُه فاستكسونى أكسوكم ، يا عبادى .. إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفرونى أغفر لكم ، يا عبادى .. إنكم لن تبلغوا ضُرِّى فتضرّونى ، ولن تبلغـوا نفعـى فتنفعونـى ، يا عبادى .. لو أن أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى مُلكى شيئًا ، يا عبادى .. لو أن أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من مُلكى شيئًا ، يا عبادى .. لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا فى صعيد واحد فسألونى فأعطيت كلَّ إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى إلاَّ كما ينقص المِخْيَطُ إذا أُدخٍلَ البحرَ ، يا عبادى إنما هىَ أعمالكم أحصيها لكم ـ ثم أوَفّيكم إيّاها فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلاّ نفسه »
وجاء تحريم الظلم ، والنهى عنه ، فى مقدمة ما شمله الحديث القدسى .. يقول رب العزة فيه إنه حَرَّم الظلم على نفسه ، وجعله بين عباده حرامًا ، فإذا كان الله عز وجل قد حرّم الظلم على نفسه ، فكيف بعباده إلاّ أن يكون محرّمًا عليهم ، منهيًّا عنهم ، مأمورين بألاَّ يتظالموا .. أى لا يتبادلوا الظلم بأن يظلم بعضُهُم بعضًا ..
ولا ينحصر التحريم فى الظلم المباشر الصرف ، وإنما ينصرف إلى كلّ قولٍ أو فعلٍ يؤدى إلى الظلم .
فالكذب فى الشهادة ، أو كتمانها ـ محرم ، لأنه يؤدى إلى ظلم .
وميل القاضى ـ محرم ، لأنه يؤدى إلى ظلم .
والانحياز إلى غير الحق والصواب محرم ، لأنه يؤدى إلى ظلم .
وعدم الوفاء بالكيل والميزان ـ محرم ، لأنه يؤدى إلى ظلم .
والإخلال بالعهود والمواثيق ـ محرم ـ لأنه يؤدى إلى ظلم .
والهمز واللمز محرمان ، لأنهما تجنى يؤديان إلى ظلم .
والاستبداد محرم ، لأنه يؤدى إلى ظلم .
أورد الإمام مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله ، أن نبى البر والرحمة عليه الصلاة والسلام قال : « اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة » .
الظلم حرام مؤثم ، ولا نفع فيه ، وجدواه سراب .
يقول تعالى :
« فَيَوْمَئِذٍ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ » ( الروم 57 )
« يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ » ( غافر 52 )
إن الله عز وجل لا يظلم الناس شيئًا ، ولكنهم هم الذين يظلمون أنفسهم بما يميلون به عن الحق والعدل والإنصاف ..
يقول تعالى :
« إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » ( يونس 44 )
وصدق جل علاه إذ يقول فى كتابه العزيز :
« إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ » ( النحل 90 )
الحزم والعدل
والذكاء العمرى
نقل الرواة أن معاوية والى الشام ، بعث بمال وقيد من حديد وكتب إلى أبيه أن يدفع بذلك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، بيد أن أبا سفيان ـ حين أتاه المندوب ـ احتفظ بالمال فى داره ، وذهب بالقيد الحديدى وبالكتاب إلى عمر .
فلما قرأ عمر الكتاب ، سأله : وأين المال ؟
قال أبو سفيان : « كان علينا دين ومعونة ، ولنا فى بيت المال حق ، فإذا أخرجت لنا شيئًا من بيت المال ، فأسقطه من هذا المال حتى نستوفيه ! »
فوجئ أبو سفيان بعمر يأمر أصحابه بتقييده بهذا القيد حتى يأتى بالمال ! ففعلوا ..
سارع أبو سفيان بإرسال من أتاه بالمال من بيته .
فأمر عمر بإطلاقه ..
حين عاد مندوب معاوية إليه ، سأله :
وهل رأيت أمير المؤمنين أعجبه القيد ؟
قال له : نعم ، ولكنه طرح فيه أباك .. وحكى له القصة .
فقال معاوية : إى والله ، ولو كان الخطاب حيًّا وفعـل هـذا لصنـع به ما صنعـه بأبى سفيان .
مرّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يومًا فرأى رجلاً يجلس على قارعة الطريق ، يردد : « اللهم ارزقنى ! اللهم ارزقنى الخير كله ! » .
فخفقه عمر بالدِّرة وقال فى الجمع الذى حوله :
« لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ، وهو يقول : اللهم ارزقنى .
وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا لا فضة !
وإنما يرزق الله عباده بعضهم من بعض ، فشمروا واعملوا » .