فن التفسير القانوني (بين التنظير والتطبيق ) (5)
الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
أستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة القانون IUM والمحامي.
يبقى التفسير القانوني صناعة من أشرف الصناعات وأهمها بالنسبة للقانونيين كافَّة وللمشرعين وأساتذة القانون والقضاة على وجه الخصوص، إنه ذروة سنام العلوم القانونية، إنه -أيها السادة- أول مرحلة عمليَّة في سبيل إنفاذ القانون وتطبيقه لتحقيق غاياته في الحماية للحقوق والحريات وفي التنظيم للمجتمع .
ونظرا لعلو مكانته وسمو منزلته في الصناعات القانونية ( البنائية والتفسيرية والخطابية ..) كانت دروبه غير ممهودة إلا لمن حصَّل معارفها وألم بمبادئها وأحاط بقواعدها حتى يقف على مدلولات النص ويستخرج أحكامه وفق ما أراده مقننها.
وليكن معلوما أيضا أن التفسير ناتج وليس مقدمة، وأنه حصيلة لما سبقه، وأنه لازم بالضرورة عن ذلك الشق التشريعي الأول ألا وهو “الشق القانوني البنائي” الذي قوامه مادة خام تم بناؤها وصياغتها ونظمها ثم مراجعتها وإخراجها فنيا انتهاء بإصدارها ونشرها رسميا.
وكما لا يتصور وجود لفظة قانونية -أو مفردة لغوية قائمة وكائنة في نص قانوني أو رقة قانونية رسمية- بلا معنى… كذلك لا يتصور أن يوجد نص أو بنيان قانوني بلا قسيم دلالي وناتج تفسيري.
وهذه بعض المهمات والمعالم الرئيسة التي لا غنية عنها ولا زهادة فيها لكل من يتصدر للتفسير القانوني ولكل من أراد أن يبحر مع نصوص القانون محللا لمفرداتها متبصرا لبنيانها متأملا لعباراتها … بغية الوقوف على دلالتها وعلى مقاصد المشرع من ورائها، وذلك فيما يلي:
المهمة الأولى: وجب وقوف المفسر على مكونات “التقنين التشريعي” في جانبه البنائي
بناء على ما سبق ذكره من أن التفسير القانوني ناتجٌ عن مقدماته البنائية ولازمٌ عنها بالضرورة كان ينبغي الوقوف على عليها، ومن ثم نؤكد ما يلي :
“يقوم تفسير النص القانوني في جميع التشريعات على ذات خصائص وسمات أبنية النصوص العربية والشرعية” .
وهي نفسها خصائص سمات اللسان العربي المبين، كما نص علي ذلك الدستور المصري 2014م على ذلك في المادة الثانية ” دين الدولة الإسلام ولغتها الرسمية هي اللغة العربية ” – وكذلك الحال في جل الدساتير العربية-
وبتحليل أي “نص قانوني” سوف نقف على أنه يتكون إجمالا من:
1– المفردات (الألفاظ والكلمات) القانونية والمقاربة للقانونية
وهي: الألفاظ وقد يقال لها الكلمات، وهي وحدة تكوين الجملة القانونية. ولا يخفى أن هذه المفردات تقع على ضربين :
أ- مفردات اصطلاحية.
ب-مفردات مناسبة للقانون.
2- المركبات: وتدخل في فئة الألفاظ، وأبرزها:
أ- المركب الإضافي. مثل قولنا “محكمة النقض”، “مجلس الدولة”.
ب- المركب الوصفي. مثل قولنا ” المحكمة الدستورية” ، “المحكمة الإدارية العليا”
3- الجمل، وهي تعبر عن الكلام المفيد ذي المعنى التام.، وهي وحدة تكوين العبارة.
4- العبارات : وهي مجموعة الجمل المترابطة والتي تعبر عن معنى معين من جميع جوانبه أو بعض جوانبه .
المهمة الثانية : تقوم دلالة الألفاظ والتراكيب للنص القانوني على أصلها الوضعي ابتداء.
بمعنى أن كل من يتصدى للتفسير القانوني ينبغي عليه معرفة أنه عند ورود لفظة ما مفردة أو مركبة فإنها تعني معناها الوضعي بلا مجاز ولا تأويل، بل الأصل أنها تجري على حقيقة ما وضعها عليه العرب، وعلى ما جرت به قواعد اللغة، وعلى سنن العرب في حديثها وإيرادها في كافة مخاطباتها.
وهذه إشارة إلى أهم الوضعيات التي ينبغي أن يأخذها مفسر النص القانوني في اعتباره :
الوضعية الأولى : الوضعية اللغوية للألفاظ القانونية
وهي الوضعية اللغوية الوضعية الأولى والأساس للفظ المفرد (لغويا) ولها عناصر مترابطة هي:
العنصر الأول : تعريف اللفظ القانوني وتنكيره.
العنصر الثاني: تذكير اللفظ القانوني وتأنيثه.
العنصر الثالث: إفراد اللفظ القانوني وجمعه .
العنصر الرابع: تجرد اللفظ القانوني وزيادته.
وهناك أمثلة عملية من نصوص الدستور والتشريعات العادية على جميع ما سبق، ولولا طول المقام لأوردتها كافة كما أوردتها في دراستي “النظرية العامة للغة القانونية” في قسمها البنائي، وسنأتي عليها لاحقا بإذن الله تعالى.
الوضعية الثانية: الوضعية الأصولية للألفاظ القانونية
وترتبط هذه الوضعية بمباحث “علم أصول الفقه” وخاصة “مبحث القواعد الأصولية اللغوية” ، فهو مبحث قذ وضعه الأصوليون لكي يضبطوا به فهم النصوص الشرعية وكيفيات تفسيرها وآليات استنباط الدلالة الشرعية منها، وهذه الوضعية مهمة كما سابقتها، ويمكن تسميتها بــ”الوضعية الأساسية”، لأنها الأكثر تخصصا.
أما عن أهم عناصر هذه الوضعية فهي :
العنصر الأول: الحقيقة والمجاز
وهذا (مبحث لفظي وعباري) تناوله الأصوليون بالتأصيل والتفصيل لضبط فهم النصوص وتفسيرها على الوجه الصواب ، وأهم عناوين هذا العنصر فهي:
أولا: الحقائق الثلاثة
أ-اللغوية
ب-الشرعية
ج- العرفية
ثانيا: المجاز
كل ما لم يستعمل فيما وضع له من الألفاظ والأساليب ( لغويا أو شرعيا أو عرفيا).
العنصر الثاني : الأمر والنهي
وأهم عناوينه التي ينبغي أن يحيط بها المفسر للنصوص القانونية قبل تجشم درب التفسير هي:
أولا: صيغ الأمر والنهي .
الصيغ الأولى صيغ الأمر ومقتضياتها.
الصيغ الثانية : صيغ النهي ومقتضياتها.
ثانيا: خروج صيغ الأمر والنهي عن معناها .
ثالثا: أحكام الأمر والنهي.
العنصر الثالث: العموم والخصوص
وأهم عناوينه:
1-العام
3- الخاص
4- المشترك
العنصر الرابع: الإطلاق والتقييد
1-الإطلاق .
2-التقييد .
العنصر الخامس : وضوح اللفظ وخفاؤه.
وهو ينتمي إلى ما سبقه مع اختلافه عنه، ويتعلق بدرجات وضوح اللفظ، وفيه يقف المفسر على مصطلحات الأصليين مثل “النص” والمجمل والمؤول… وغير ذلك من المصطلحات”
المهمة الثالثة : ترسية محكمة النقض لأهم المبادئ المتعلقة بتفسير النصوص القانونية
أوردنا فيما سبق من مقالات (1-4) من هذه السلسلة بعض قواعد محكمة النقض بهذا الخصوص ، وها نحن ذا نورد صدر حكم محكمة النقض في ذلك نظرا لتعلقه بالصورة العامة التي يجب أن يقف عليها مفسر النصوص التشريعية ونصه :
“باسم الشعب- محكمة النقض- دائرة الاربعاء تجاري – الطعن رقم ١٢٣٣٣ لسنة ٩١ قضائية جلسة الثلاثاء الموافق ١٦ من فبراير سنة ٢٠٢٢ – برئاسة السيد القاضى / محمد أبو الليل” نائب رئيس المحكمة “وعضوية السادة القضاة / أمين محمد طموم، محمد إبراهيم الشباسي، سامح سمير عامر” نواب رئيس المحكمة “، و د / محمد عصام الترساوي
ــــــــــــــــــــــــــ
(١ – ٤) قانون ” تفسير القانون : التفسير القضائى : تطبيق القانون ” .
(١) تفسير القوانين : وفيه ترسي محكمة النقض ما يلي :” الأصل فيه الوصول إلى مرمى المشرع . لازمه . استطالة التفسير إلى كامل القانون الذى ورد به النص ..”
(٢) النص الواضح قاطع الدلالة على المراد منه . عدم جواز الخروج عليه أو تأويله .
(٣) تفسير النصوص القانونية . وجوب مراعاة التناسق فيما بينهما بعدم تفسير النص بمعزل عن الآخر .
(٤) تطبيق القانون على وجهه الصحيح . لا يحتاج إلى طلب من الخصوم . التزام القاضي باستظهار الحكم القانوني الصحيح المنطبق على الواقعة المطروحة عليه وإنزاله عليها أياً كان النص الذى استند إليه الخصوم في تأييد طلباتهم أو دفاعهم أو دفوعهم فيها.
لــــذلــك، رفضت المحكمة الطعن، وألزمت الشركة الطاعنة المصروفات، ومائتي جنية مقابل أتعاب المحاماة مع مصادرة الكفالة.
نكمل بإذن الله تعالى في المقال القادم