فصول في “اللُّغة القانونية” – أصلها وتطورها ( الفصل 1)
بقلم الدكتور/ محمد عبد الكريم أحمد الحسيني المحامي وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية بمينسوتا
جاوزَ الصوابَ.. وما أصابَ ..!! منْ ظنَّ أن مهاراتِ اللُّغة القانونية وخبراتها لاحقة غيرَ سابقة ، وأنَّها نافلة غير واجبة ، وأنه يستطيع أن يمتهِنَ القانون ويترقَّى في مدارجه دون تأصيل أو تحصيل لأيٍّ من مهارات هذه اللُّغة القانونية الشريفة ..!!
ألم يعلمْ هذا القانوني أنَّ لغته سلاحُه ، وأنَّها عتاده في الادِّعاء أو الاتِّهام وفي دفعه ودفاعه وفي خطابه وحجاجه .. ؟!!
ألم يعلمْ أن ترقيه فيها ، وتحصيله لها هو سلمه البرقي في الصعود والترقي إلى المعالي القانونية والمكانات الأدبية والمقامات الفكرية …؟!!
ألم يعلمْ -هذا الذي غبن نفسه قبل أن يغبن “لغة القانون”- أنها أداةُ السِّحر الحلالِ في التحرير والتقرير وفي الوصل والاتصالِ ؟!!
ألم يعلمْ أنَّها مُكنه فعَّالة تشدُّ أزر عارفها والمتمكن من مهاراتها قاضيا كان أو محاميا ، كاتبا كان أو مترافعا …!!!
دعونا إذن نتعرف على “اللغة القانونية” نظامها وتاريخها في القانون والنظام القضائي الشرعي وفي القانوني والنظام القضائي الوضعي … من مبدئها … منذ كان القانون في مهده متدثرا بالقيم الدينية والقيم الأخلاقية …. ولم يستقل بعد بما هو عليه الآن …
تشتد الحاجة إلى التنظيم الاجتماعي في عالم اليوم أكثر من أي وقت مضى ، إذ تتقارب المسافات وتتنوع العلاقات وتتعدد المعاملات بصورة غير مسبوقة ، بفعل التقدم التقني عامة وتقدم وسائل الاتصال والتفاعل خاصة .
ومن المعلوم أن أدوات التنظيم الاجتماعي الأولى هي الدين والأخلاق والقانون ، وللدين والأخلاق مجالهما، ومجالنا في هذه الدراسة هو القانون (سواء القانون الشرعي وأصله ديني إيماني أو القانون الوضعي)، وكلاهما يشترك في غاية تنظيم المجتمع بتنظيم علاقات ومعاملات وسلوكيات أفراده ، وكلاهما يجدُّ في إيجاد وتأصيل وتقنين أدوات هذا التنظيم الاجتماعي.
وبالنظر مليا في القانون سنجد أن أصله الأول يرتد إلى القيم الثلاثة العليا التي عرفها البشر منذ القديم، ولهجت بها الأديان وتناولها الفلاسفة والأدباء والحكماء والمفكرون على مدار العصور وهي: قيم الخير والحق والجمال، فقيمة الخير تعبر عن الأخلاق ودائرتها أيا كان انتماء هذه الأخلاق للدين أو للفلسفة أو للعلم [انظر عنها فرانسوا غريغوار : المذاهب الأخلاقية الكبرى ص 37، 63، 90، ترجمة قتيبة المرزوقي ، دار عويدات ط3 /بيروت ، باريس 1984 ] .
وقيمة الحق تعبر عن العدالة ودائرتها القانونية وامتداداتها الدينية أو الطبيعية أو الفلسفية ، وقيمة الجمال دائرتها الذاتية والشعور ويعبر عن جانب كبير منها الفنون بتعدد مذاهبها وتنوع أصولها ومشاربها.
وكان ينظر حينئذ إلى القيم على أنها غايات في ذاتها، فقصرها أفلاطون في ثالوثه على (الخير والحق والجمال)، وجعل “القيمة الخلقية” فوق القيمتين الأخريين، وأنهما يؤولان إليها بما يمكن التعبير عنه في شكل مثلث قمته “القيمة الخلقية”، وزاويتاه الجانبيتان هما القيمتان الأخريان [انظر د. محمد عبد الكريم الحسيني ، القيم الخلقية بين الوضعية والمعيارية ص 48 ـ رسالة دكتوراه – جامعة القاهرة 2005م . جان بول رزفبر: فلسفة القيم ص 13 ]
وثلاثة القيم السابقة رغم تنوعها إلا أنها تحلق في أصلها– في جانب منها – في عالم معياري عميق أضفى لها وعليها ماهيات عامة وتعلقات دينية وتحقيقات معيارية عميقة ، فغدت قيما معنوية فيها من السيولة الكثير ، كان لابد لها من شكل تظهر به وقالب تتمثل فيه.
وقد تعددت هذه الأشكال أيضا ، فمنها على سبيل المثال الأشكال المنطقية ،والمراسيم الدينية ،وتلك التقاليد العرفية التي تتجلى بها بعض هذه القيم وما يهمنا هو ذلك الشكل اللغوي الذي صاحب بعض تلك القيم وأصبح علامة عليها ورمزا لها في كثير من الأحيان . يحفظ لها طبيعتها ويضمن انتقالها بين الأجيال ،وهو شكل لازم لا استغناء لتلك القيم عنه أبدا وإلا عراها الاندثار بهلاك رجالاتها وذهاب سدنتها.
فالقيم معان وماهيات لا تنضبط ولا تظهر للعيان ابتداء إلا بشكل لغوي منضبط ، ولا يمكن تواصلها وتناقلها بكامل مضمونها ورموزها ودلاتها إلا بهذا الشكل اللغوي المنضبط ، إذ به تجد سبيلها إلى المخاطبين بمعانيها وأحكامها، وبه تستذكر ماضيها وتستدعى حاضرها وبها يكون الأثر الفعلي تأطيرا وضبطا بين المتعاملين والمتعالقين ، وبها يكافأ المخاطبون وبها يؤاخذون .
وعلى مر العصور كان لكل قيمة من القيم السابقة لغته المميزة التي تعبر عنه وعن مضامينه ، فللدين لغته المعظمة وكتبه المقدسة ونصوصه التي لا تمس وشريعته الحاكمة وله خطابه الديني، وللأخلاق لغتها التي تنطق بالخير والحكمة وتمس الوجدان ، ولها مأثوراتها وتراثها المعظم وخطابها المؤثر ولها خطابها الأخلاقي ، وللجمال لغته الفنية وقوالبه الأدبية التي تسمو بنفوس محبيه ، سواء كان شعرا أو نثرا أو فنا معينا لكي يمكن الحديث عنها والتخاطب به.
وبالنسبة للقانون فإنه يتشارك مع الدين والأخلاق في غاية التنظيم للعلاقات والمعاملات[انظر فلسفة القانون ( مفهوم القانون وسريانه ) روبرت ألكسي ص 9 تعريب د.كامل فريد السالك / منشورات الحلبي الحقوقية ط2 بيروت ، 2013 م. ] وفي اختصاصه بنظامه اللغوي المعبر عن قواعده وأحكامه ، وليس هذا اختصاص كعادي مثل باقي الاختصاصات إذ وقع أمر جلل وجدير بالملاحظة يدل على مكانة قواعد هذه اللغة من النصوص ، وموقعها من أحكم تلك النصوص مدى عناية وكفاءة علمائنا السابقين في تعظيمهم لأدوار ومهمة قوانين الشريعة، حيث بل لم يكتفوا باللغة العربية الفصحى لغة العرب في الجاهلية وحدها نظرا لاتساعها وتنوع أجناسها .
فقاموا على استخلاص أهم مواردها وأقرب قواعدها للنصوص الشريعة وقعدوا لمبحث فريد ليس له مثيل في غيره من الأمم – على ما دلت عليه بعض الدراسات – وهو مبحث :” لغة الأصول ” أو ” لغة فهم أحكام النصوص ” أو لغة استخلاص الأحكام من النصوص ” أو ” لغة الاجتهاد ” ، وهو ما أسموه ” القواعد الأصولية اللغوية ” هذا على الرغم من عظيم وعيهم بعلوم اللغة العربية وعلى فائق إلمامهم بقواعدها وآدابها وسننها ….وما ذلك إلا من باب التحوط ، والتحسب للخلط أو الخطأ في فهم النصوص وفي استنباط الأحكام منها .
وهم يذكروننا في ذلك بفلاسفة اليونان وأساطينهم الذين عنوا بالفلسفة عناية فائقة لا تضاهيها عناية أي أمة من الأمم حتى اخترعوا المنطق الذي ظل مهيمنا على البشرية لأكثر من ألف سنة .
فكذلك كانت عناية الفقهاء والأصوليين المسلمين بلغة الشريعة والأحكام عناية غير مسبوقة يضرب بها الأمثال ، بل زد على ما سبق أنهم أوجبوا هذه اللغة الأصولية على كل من ولي القضاء وتصدر للإفتاء أو رام أن يعد من أهل الاجتهاد ونصوصهم في هذا كثيرة ، بل لهم مصنفات في آداب طلب العلم وفي التفقه وفي الفتوى والقضاء كلها مجمعة على وجوب هذه اللغة
وهنا يرد تساؤل :
إلى أي حد بقي النظام القضائي الشرعي قائما بالتشريع متماسكا بلغته والتي قوامها مبحث القواعد الأصولية اللغوية؟
ومتى برز النظام القانوني الوضعي مستعينا بالقواعد الأصولية اللغوية ومتى انحسرت عنه هذه القواعد وغدا من غير لغة قانونية إلا بقايا من آثار المتمكنين من القضاة وفقهاء القانون والمحامين وغيرهم ؟!