علمنا النسبي في رحاب العلم اللدني (5)
من تراب الطريق (992)
علمنا النسبي في رحاب العلم اللدني (5)
نشر بجريدة المال الاثنين 7/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
لغات الآدميين في كل زمان ومكان تقابل وتخدم ذلك المزيج وتزوده بحاجاته من الألفاظ والعبارات وتراكيب الأساليب بغير تميز في الخدمة بين عنصر وآخر.. والمحاولة الجادة للفصل لغةً بين هذه العناصر ـ قد ينجح فيها المفكر أو العالم أو الباحث نجاحًا جزئيَّا، وهو عندئذ يعتبر ما عدا ذلك خاليًا من المعنى الحقيقي، ويراه مجرد تصوير للانفعال أو الخيال أو الاعتقاد، ولكن هذا النجاح الجزئي لا ينجى صاحبه من الاستمرار في حمل ذلك المزيج المتداخل في وعيه، ولا يمكن أن ينجح في الوصول إلى وعى الآدمي وإقناعه بجدوى الفصل الحاد بين تلك العناصر على الوجه الذي قد يجريه المفكر أو العالـم أو الباحث !
ولعل ذلك الامتزاج أو الاختلاط فرع على حياة كل منا التي نحياها أنفاسًا ورشفات ونتفا وثواني وساعات، وأيامًا وليالي وأجزاءً فقط.. ولا نحياها كتلاً وكليات متماسكة .
ووراء ذلك الامتزاج أو الاختلاط سر امتزاج حيوانية الآدميين بإنسانيتهم، ومرجع اشتراكهم مع الثدييات في الاحتياج الذي لا ينقطع إلى الطبيعة الجامدة أجسامًا وسوائل وغازات وطاقات، وتشابههم مع هذه الثدييات في الولادة والصغر وفي الشباب والشيخوخة والموت، وكذا سر أشواق الآدميين للبقاء والخلود، وسر اعتمادهم على الحواس والخيال في نفس اللحظة ـ في الماديات والمعنويات، وسر انصرافهم المتزايد إلى الجوامد وطاقات الجوامد ـ مع الخضوع والحيرة أمام الحياة وحيلها في مقاومة الفناء، ثم سر عجز البشر عن رفع حجاب الغيب الكثيف الذي يحول دون فهمهم لحقيقة الكون في عظمته أو في أدنى أجزائه وظواهره وأقلها شأنًا.. لا فرق بين ما في داخل الآدمي أو خارجه !
ذلك الامتزاج أو الاختلاط ـ قد يكون حدًا من الحدود الكونية المستورة.. يكفل بقاءنا في الإطار العام المرسوم لنا.. لا تتجاوزه أطماعنا وخيالنا الذي لم نبلغه بعد ولن نبلغه في أي مستقبل قريب !.. هذا إلى أن ذلك الامتزاج وذلك الاختلاط ـ قد يكونان من وسائل اتصال حاضرنا بماضينا.. يتم على أساس اكتشاف التماثل والتشابه واختفاء وجوه التناقض.. وهى أمور لا يخفيها إلا المخيلة التي تتجاوز عن النقائص والفوارق إذا محا مرور الأيام بروزها وحجمها فتتوارى شيئًا فشيئًا مفسحة المجال لما يستطيع الإنسان أن يضيفه في رحلة الحياة التي لا تكف عن الحركة والدوران !
مهما ضرب الإنسان بسهم في العلم ـ كبر أم صغر، فإنه لا شيء في علم الواسع المحيط عز وجل.. في القرآن المجيد : « وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً » ( الإسراء 85 ).. لا يعلم ضآلة العلم البشرى أمام العلم اللدني إلاّ الراسخون في العلم.. فيهم يقول القرآن الحكيم : « وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا » ( آل عمران 7 ).. كلما اتسع علم الإنسان، كلما أدرك قصور وضآلة ما يعرفه.. لسان حالهم ينطق بما يقوله الرسل لرب العزة يوم المشهد العظيم.. « قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ » ( المائدة 109 ).