عقيدة النبوة في الإسلام ( 2 )
بقلم/ الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين
نشر بجريدة الشروق الخميس 2/12/2021
النبوة الإسلامية ليست نبوة استطلاع للغيب ولا إفحام للعقول بالخوارق المفحمة المسكتة ، وإنما هى نبوة هداية أراد الله تعالـى لهـا أن تخاطـب وتفتح « العقــول » و« البصائر » ، لا أن تفحمها وتقعدها عن النظر والتأمل والتدبر والتفكير والفهـم .. هذا المعنى الفارق لم يكن محض تصور متروك لاستخلاص الناس أصابوا فى ذلك أم أخطأوا ، وإنما هو توجيه قرآنى صادر بأمر ربانى صريح إلى النبى أن يبدى للناس أنه ليس إلاّ بشرًا رسولاً اصطفاه ربه لحمل وأداء الرسالة ـ « قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً » ؟ ( الإسراء 93 ) .. هذا الأمر الربانى ببيان جوهر الرسالة المحمدية ، ورد فى معرض نقد تعلق الناس بالخوارق الحسية التى ثبت بتجارب البشرية أن مآل أثرها إلى الانقضاء والانطمار .. فى ذات سورة الإسراء تقدمه لهذا الأمر والبيان الإلهى ، تنبيه واضح إلى الفارق الجوهرى بين نبوة هداية قوامها القرآن ، وبين التعلق الضرير بالخـوارق الحسية !.. تقول الآيات الحكيمات : « قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا * وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَـا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَـى فِـي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً » ( الإسراء 88 ـ 93 ) .. فى تماحى أثر الخوارق ، وتلمس المكابرين التعلاّت والأسباب للتملص منها ، يقول القرآن المجيد : « وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ » ( الحجر 14 ، 15 ) .. فليست الخوارق مما يغنى فى دعوة المكابر المعاند المفتون ، ولا هى أداة الدعوات لمواجهة ما يأتى به قابل الأيام !!
لذلك أراد الإسلام لنبوة القرآن أن تكون نبوة فهم وهداية تدعو بكتابها المبين إلى النظر والتأمل والتفكير ، وليست نبوة استطلاع وتنجيم وخوارق وأهوال .. النبى ليس منجمًا ولا عالمـا بالغيب ، وليست النبوّة نبوّة سحر أو رؤى أو أحلام أو قراءة طوالع وأفلاك .. « قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » ( الأعراف 188 ) .. لذلك حرص رسول القرآن أن ينحى عن أذهان الناس سمعة المعجزة المسكتة عندما جاءته ميسرة يوم كسفت الشمس وظن الناس أنها كسفت لموت ابنه إبراهيم ، فأبى عليهم ذلك ، ونبههم إلى أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفـان لمـوت أحد ولا لحياته ..
لا يختلف أحد على أن الرسالة المحمدية ، هى آخر الرسالات الكبرى فى تاريخ الإنسانية ، وأنها عمت الدنيا وصار أتباعها المؤمنون بها بمئات الملايين ، وأنه لم تتلوها رسالة أو ديانة يمكن لزاعم مهما اشتط أن يحسبها من رسالات السماء ..
وخاتمية الرسالة المحمدية ، قد اقتضت أشياء هى مـن مقومات هـذه الخاتمية من ناحية ، ودالـة عليها وعلى مصدر هذه الرسالة من ناحية أخرى .. فالخطاب الذى كان فـى الأديان السالفة محدوداً بحدود الأقوام والزمان والمكان ، واقترنت فيه النبوة اقترانا محدودا بقوم النبى الذين أرسل إليهم ، خرجت النبوة المحمدية من هذا الحد المحدود إلى الميدان الواسع الفسيح لتشمل العالمين ، وبغير حد فى الزمان أو المكان ، وبغير اقتصار فى الخطاب على قوم دون أقوام أو على عرق دون أعراق ! واقتضت هذه الخاتمية ـ فيما اقتضت ـ كمال وتمام الشريعة ، وتطهير وإصلاح كل ما لابس تدين الغابرين من بعد عن الدين ، أو التلبيس فى أمر الأنبياء والخلط بشأنهم بين النبوة الحقيقية وبين العرافة والرؤيا والأحلام والاستطلاع والتنجيم والكهانة والجذب وقراءة الغيب والسحر بل وأضراب من الجنون فيما أسموه بالجنون المقدس !. واقتضت هذه الخاتمية فيما اقتضت التعريف بالأنبياء الحقيقيين وتجلية صورهم وتطهيرها مما علق بها من إساءات التطاول أو التحريف ، والارتفاع بهذه النبوّات الحقيقية إلى مقامها الرفيع السامق كاصطفاء إلهى من السماء للهداية والإصلاح !
وأول ما اقتضته خاتمية وعموم وشمول رسالة الإسـلام ، أن تكـون مـن رب العالمين إلـى العالمين .. الله سبحانـه وتعالـى هو الواحد الأحد ، الصمد ، لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفـوا احد .. هو سبحانه الحى الذى لا يموت ، الموجـود من الأزل ، والباقى إلى الأبد .. كل من عليها فان إلاّ وجهه سبحانه ذو الجلال والإكرام .. الله تعالى رب العالمين ، فليس الرب كما يقول العهد القديم « رب اسرائيل » ، أو رب قـوم آخرين من مخلوقـات الله ، وإنمـا هـو ـ عـز شأنه ـ « رب العالمين » .. وهذا التعبير متعدد التكرار فى القرآن المبين ، وتردد فى آياته أكثر من سبعين مرة .. واقتضت النبوة الخاتمية ، العامة الشاملة ، أن تكـون رسالة النبى الخاتم للعالمين وللناس كافة ، لا يختص بـه قـوم ولا عرق ولا زمان ولا مكان .. هذه الرسالة العامة الشاملة التى بعث بها الله تعالى محمداً عليه السلام : « فى أم القرى » : مكة المكرمـة ـ لم تكن رسالة للمكيين ولا لأهل مكة فقط ، ولا للقرشيين أهل محمد عليه السلام بخاصة ، ولا لأهل الجزيرة العربية خاصة دون سواهم ـ وإنما هى نبوة هداية عامة شاملة تتجه بخطابها إلى الناس كافة ، وإلى العالمين إلى يوم الدين !
* « تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا » ( الفرقان 1 ) .
* « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ » ( سبأ 28 ) .
* « قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » ( الأعراف 158 ) .
* « هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ » ( التوبة 22 ) .
هذا الخطاب العام الشامل ، اقتضت عموميته وخاتميته أن يصحح عقيدة النبوة من الأوضار التى شابتها فى أفهام الغابرين ، وأن يضع الرسل والأنبياء السابقين موضعهم اللائق بما حملوه من رسالات إلهية اقتضتها الحكمة الإلهية فى أوانها لإمداد أقوام هنا وهناك ـ فى زمن معين ـ بهداية تستنقذهم من وهدة الكفر والضلال الذى ران عليهم ، وتشد أبصارهم إلى الواجد الماجد عز وجل .. لم يكن الجنوح فى فهم عقيدة النبوات السابقة ، أو خلطها بصناعة التنجيم والعرافة والاستطلاع والرؤيا والجذب والكهانـة والجنون المقدس ، وما إلى ذلك .. لم يكن هذا الجنوح أو الخلط نابعا من ذات عقيدة النبوة فى الأديان السابقة ، وإنما شجـر الجنوح والخلط من التباس وجنوح أفهام الناس ، ومن سيادة الجهالة والأساطير ، ومن لجاجات لم تتوقف فـى أغلاطها ولا فى شططها عند حد !!