عفة المستغني!

عفة المستغنى!

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 14/8/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

للمستغنى عفة يجب أن يقدرها من يتعامل معه، فقد قيل في الأمثال: «اتق عفة المستغنى». فالمستغنى غير قابل للشراء أو الانصياع لغير ما يؤمن به ويهديه إليه اختياره وعقله…

على أن هذا الاستغناء لا يتحقق لأحد بمجرد الغنى أو الثروة أو حيازة النفوذ، فكم من ثرى لا يشبع ولا يرتوى، وصاحب سلطة لا يهدأ في استغلال نفوذه فيها بما لا محل ولا حاجة له فيه، إلاَّ الأثرة ومحبة الزيادة، وتراكم المال أو النفوذ.

الاستغناء لا يأتي إن أتى إلاَّ حصاداً لرياضة النفس، ومغالبة للهوى، وقمعا للأطماع والشهوات.

قيل إن الإنسان إذا كبر في السن نضج، وإذا نضج فهم، وإذا فهم استغنى، وإذا استغنى تحرر.

غاية العاقل ليصدق مع نفسه ومع الدنيا أن يتحرر، يتحرر من حسابات المصلحة والأغراض والمآرب، وهو لا يمكن أن يتحرر إلاّ إذا استغنى. استغنى عن عبء الاحتياج أو شهوة المال أو إغراء المناصب. لا يمكن للإنسان إلاّ للأفذاذ ! أن يستغنى إذا كان محاصرا مخنوقا في داخله بمطالب الاحتياج أو نداءات الشهوة أو الإغراء !

هذا هو الفارق الذي نراه بين من يفدون بأنفسهم في سبيل الوطن، ويضحون في سبيل القيم، ويتصدون للغايات العامة.. لا تظاهرا وبحثا عن الوجاهة والمكانة، وإنما اقتناعا مخلصا مضحيا حقيقة وفعلا من أجلها. الناس عدا الأنبياء والأفذاذ أسرى لشرانق كثيرة تحول بينهم وبين الإخلاص لغير أنفسهم ومن في حكمهم. تجد ياء الملكية ملغاة في سلوك الأنبياء.. لا ينشغلون بها ولا بشيء مما يشغل البشر من حب الاقتناء. كان رسول القرآن صلى الله عليه وسلم يقول: « نحن الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ». الانشغال بميراث الذرية أحد أهم الأسباب لجشع الاقتناء وتكويم الثروة، والانشغال بها يسحب من رصيد الاستغناء الذي لا تحرر حقيقيًا بدونه. حب الاقتناء غريزة مسيطرة، لها متوازيات في حب المناصب والسلطان، وفي حب الجاه والنفوذ.. وهي متوازيات أيضا في سحبها من رصيد الاستغناء وحيلولتها دون تحرر الإنسان من الحسابات التي تحاصره وتشغله.. فلا يخلص إلاّ لها ولا يستغنى عنها.. فتقيم نوازعه بينه وبين التحرر سياجًا منيعا يحول بينه وبين الوصول إليه !

تأمل في أفذاذ البشرية، كغاندي مثلا.. تجده قد استغنى فتحرر، وقاد أمته بأسرها إلى التحرر. بغير هذا الاستغناء والتحرر ما كان يمكن لغاندي أن يحمل ما حمله ولا أن يصدق مع نفسه ولا أن يؤثر هذا التأثير الهائل في أمته. أثر فيها لأنه صادق صدقاً استمده من تحرره باستغنائه. أين هذا الاستغناء مما ينشغل به معظم الناس حاجة أو طمعا؟! ليس الطمع وحده هو الذي يشد الطامع إلى ما يريد ويصرفه عما يجب، وإنما الحاجة أيضا. نشر الحاجة والاحتياج فلسفة الأنظمة المستبدة لاستبقاء هيمنتها ونفوذها وتحكمها وسيطرتها على طوابير المحتاجين ! مع هذه الفلسفة يغدو تحويل جمهور الناس إلى محتاجين هدفا مطلوبا !.. فالمحتاج مشغول بقوت يومه وعياله الذي يعز عليه، وبمطالب الحياة التي تحاصره ولا تنتهى !

نجد رئيسا أمريكيا كجيمي كارتر، يتحول بعد تركه منصبه إلى قيمة تعطى بشجاعة وصدق للقضايا العامة. صار فيما يقال أفضل رئيس أمريكي سابق، مع أنه لم يكن أفضل رئيس أمريكي. الفارق أنه استغنى فتحرر، واستطاع بتحرره أن يرى ما لم يكن يراه وهو أسير المنصب وحساباته !

ظني أنه ما من عاقل، أو فقير، حاكم أو محكوم، إلاَّ في حاجة إلى ذلك الاستغناء، حتى يتحرر فلا تذله رغباته أو شهواته، ولا تستعبده أطماعه وشغفه بالمزيد. الاستغناء نعمة حقيقية، وقوة، يشعر معها بأنه حر، لا شيء يذله أو يستعبده أو يسيطر عليه. أن إرادته في يده، وحريته مكفولة، وأن الدنيا كلها بيده ما دام قد استغنى فتحرر من ذل الطلب والعوز والحاجة !

زر الذهاب إلى الأعلى