عالم الإنسان في رحاب الكون ! (1)
من تراب الطريق (1019)
عالم الإنسان في رحاب الكون ! (1)
نشر بجريدة المال الخميس 14 / 1 / 2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
هل تأمل أحد، تأملاً حقيقيًا متعمقًا، في خلقه وما فُطر عليه ووُهب ومُنح إياه من خصائص ونِعم ؟! هل وعى أحد وعيًا متفطنًا معنى الآية القرآنية الحكيمة: « وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً » ؟! ( الإسراء 70).
هل تأمل أحد معنى وجوهر هذا التكريم الذي تفصح الآية الكريمة عن تمييز الإنسان به ـ بأمر ربه ـ بين باقي الخلائق والكائنات في هذا الكون الهائل العظيم ؟! لو تأمل الإنسان في خصائصه وقدراته وما هو عليه ويعيش به، لأتاه الجواب واضحًا وأدرك جوهر هذه الآية القرآنية الحكيمة . أجل الآدمي مخلوق حي يشارك الأحياء من الحيوان في كثير من الأجهزة والوظائف، لكنه قد وهب وهذا ما يميزه بعالم خاص به، وهب القدرة التي تكاد تكون غير محدودة على الاستكشاف والاختراع.. استكشاف نفسه واستكشاف المخلوقات الأخرى، واستكشاف ما في ذلك كله من الاستعدادات والصلاحيات والإمكانات التي منح إياها لابتداع أشياء من أشياء وصور من صور وأشكال من أشكال وقوى من قوى وحركات من حركات وسرعات من سرعات وتركيبات وقدرات من عناصر ومكونات مختلفة لم يسبق لها وجود في الكون الذي لم يتصل به الآدمي.. هذه الخصائص مكنت الآدمي وتمكنه من إرضاء تخيلاته وأحلامه وأطماعه وتصوراته وتنمية ذلك كله واستمرار الزيادة والتغيير والتبديل فيه.. أي أنه بالفعل مكرم متميز في عالمه ذلك الذي امتاز به ولا تشاركه فيه الأحياء الأخرى التي لا تخرج عن التوالد والتكاثر أو النمو التلقائي، بينما الآدمي وإن وجد تاماً لا يجدد ذاته أو يضيف إليها وما خلقها الله تعالى عليه، إلاّ أنه يمتلك ويستطيع بتدخله الآدمي أن يجدد ويعدل، وإن كانت صورته في وعيه وذاكرته لا تستقر على حال لتعرضها دائـمًا للمراجعة .
إذن فإن عالمنا الذي يقضى فيه كل منا حياته بحلوها ومرّها، عالم آخر مغاير لا يطابق سنن الكون.. يتسع له الكون ولكن لا يعترف به أو بإنجازاته فيما يبدو ! .. وهو عالم مبنى ـ أعنى عالم الإنسان ـ على استعدادات الآدمي وقدراتـه الآدميـة في الاستكشـاف والاختـراع الآدمـيين، وعلى أشواقه التي لا تنطفئ في هـذين الاتجاهين.
حسبك أن تقارن بين البارجة الضخمة أو العمارة الضخمة، وبين خلية النحل أو بيت النمــل.. هذان لا يندثران قط . يجدد النحل خليته والنمل بيته كلما أنكره، في المكان الذي يلائم بيئته، بينما البارجة إذا عطبت أو تقادمت تصير كومة من الحديد، والعمارة إذا اختلت أو انقضى طرازها تصير تلاً من الأنقاض ! . وقد لا يفكر آدمي في إعادتها من جديد، إذ ليس في تركيبها كبارجة أو كعمارة، عنصر دائم يصر الآدميون على تكراره وبقائه واستدامته .
واللغة هي أكثر ما ترتسم فيه هذه الخاصية الآدمية.. فلغات الآدمي كليات ومجردات وأصوات تداول أسماء وأفعالا في الذهن والمخيلة لا في الواقع.. يربط بينها إشارات وحركات وظروف وحروف تساعدها على حكاية الواقع والخيال والموجود والمعدوم والكثير والقليل، وعلى صياغة قرارات الآدمي وأحلامه ومخاوفه وأوهامه، وعلى حفظ معلوماته وتصوراته ومصدقاته وعقائده، وعلى توارثها وإمكانية تعديلها وتغييرها وتوسيع أو تضييق مجالاتها ومفاهيمها، وتفسح الطريق أمامه لتطويرها وتنقيحها، وتزوده بزاد لا ينفد من فرص العلاقات العاطفية والنفعية والأخلاقية والمثالية، وتبنى وتقوض بذلك كله عالم الإنسان وحضاراته في الزمان والمكان وضمن الكون الهائل العظيم الذي يتسع ويصبر ويتحمل وأحيانا يشجع، ولكنه قد يدمر ما أقامه الآدميون في غرورهم وحماقاتهم !