صناعة التشريعات الجنائية في عالم متغير.. الإخصاء الكيميائي
صناعة التشريعات الجنائية في عالم متغير.. الإخصاء الكيميائي
بقلم: الدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
تعج وسائل الإعلام المصرية في السنوات الأخيرة بالعديد من الأخبار المنشورة عما يطلق عليه شعبياً وإعلامياً «جرائم التحرش»، أو ما يطلق عليه في الاصطلاح القانوني «جرائم الاعتداء على العرض»، أو ما يمكن أن يطلق عليه البعض تجاوزاً تعبير «الجرائم الجنسية». ولا ندري ما إذا كان ذلك راجعاً إلى الزيادة فعلاً وواقعاً في كم وعدد هذه الجرائم، أم أن الأمر يرجع فحسب إلى زيادة الاهتمام الإعلامي بها. وقد أسهم في هذا الزخم الإعلامي ظهور وسائل التواصل الاجتماعي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بما أسفرت عنه من تصوير وتسجيل العديد من الوقائع التي تحدث لآحاد الناس في حياتهم اليومية، ونشر هذه التسجيلات ومشاركتها على نطاق واسع. ومن هنا، يبدو من المناسب الوقوف على حجم الظاهرة من واقع الإحصاءات الرسمية، وبيان عدد البلاغات المسجلة في أقسام الشرطة عن الجرائم الجنسية، وبيان عدد القضايا الجنسية موضوع التحقيق أمام النيابة العامة والمتداولة أو المنظورة أمام جهات القضاء الجنائي، وعدد المحكوم عليهم المدانين بارتكابها. كذلك، يبدو من المناسب دعوة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية لإيلاء الاهتمام الواجب بهذه الظاهرة، وبيان ما إذا كانت قديمة أم مستحدثة. ومع ذلك، ورغم تأكيدنا على أهمية الإحصاءات الجنائية، فإن ما قد تسفر عنه من زيادة في نسبة الجرائم الجنائية قد لا يكون معبراً عن حقيقة الواقع، ولا يجوز الاستدلال منه بشكل جازم ولازم على تفاقم حجم الظاهرة. إذ يمكن أن تكون هذه الزيادة راجعة إلى انخفاض في حجم الرقم الأسود لهذه الجريمة عنه في السنوات السابقة، الأمر الذي يمكن اعتباره ظاهرة إيجابية وعاملاً مساعداً في مواجهة هذه الجريمة والحد من أضرارها. بيان ذلك أن علماء الإجرام يؤكدون أن العدد الرسمي للجرائم كما تكشف عنه الإحصاءات الجنائية لا يتطابق البتة مع العدد الفعلي للجرائم المرتكبة. فهناك فارق حجمي ضخم بين هذين العددين، وهو ما يطلق عليه تعبير الرقم الأسود أو الرقم المظلم، ويقصد به عدد الجرائم التي لم يصل علمها إلى الجهات الرسمية.
وعلى كل حال، وسواء كانت ثمة زيادة حقيقية في أعداد جرائم الاعتداء على العرض أو أن الزيادة هي فقط في حجم الاهتمام الإعلامي بها وتسليط الضوء عليها من خلال وسائل الإعلام التقليدي أو وسائل الاجتماعي الشعبي أو الاجتماعي، فإن ثمة صدمة مجتمعية ورد فعل مجتمعي غاضب إزاء المتحرشين أو مرتكبي جرائم الاعتداء على العرض، مطالباً بتوقيع أقصى العقوبات على هؤلاء المجرمين زجراً لهم، وردعاً لغيرهم ومنعاً لهم من الاقتداء بهم. وفي هذا الإطار، يدعو البعض، ولاسيما الأصوات النسائية، إلى تشريع عقوبة الإخصاء، مؤكداً أن الإخصاء هو الحل (يراجع على سبيل المثال: د. دعاء قرني، الإخصاء هو الحل، جريدة الأهرام، آراء حرة، الاثنين 18 شعبان 1435ه الموافق 16 يونيو 2014م، السنة 138، العدد 46578؛ جريدة اليوم السابع، القاهرة، تحقيقات وملفات، الجمعة الموافق 23 أكتوبر 2015م، مفيش راجل بقى راجل.. الإخصاء الكيماوي للمتحرش هو الحل.. فتيات: لازم المتحرش يتحقن هرمون أنوثة.. رجال دين: حرام وتغيير لخلق الله.. قانونيون: أصغر محامي يطلع المتحرش براءة.. والطب النفسي: إن زاد عن حده انقلب ضده؛ عنتر عبد اللطيف، الإخصاء هو الحل، صوت الأمة، القاهرة، الثلاثاء الموافق 11 أبريل 2017م؛ سحر الجعارة، الإخصاء هو الحل، جريدة الوطن، القاهرة، نافذة رأي، الاثنين الموافق 27 أغسطس 2018م). بل إن إحدى النائبات في مجلس النواب المصري أعدت مقترح مشروع قانون ينص على إخصاء المتحرشين، مما أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الحقوقية والسياسية، وتم اعتباره عقوبة قاسية جدا، لا تتوافق مع الجرم المرتكب.
ولم تقتصر هذه الدعوات على المجتمع المصري، وإنما امتدت إلى بعض المجتمعات العربية الأخرى التي تعاني من هذه الظاهرة. ففي المملكة المغربية على سبيل المثال، وفي شهر أبريل 2018م، وتحت عنوان «الإخصاء الجراحي للمغتصبين وإنهاء حياتهم الجنسية»، زعم موقع «هسبريس» أن الحكومة تدرس قانوناً مستعجلاً لإخصاء المغتصبين. وفي مستهل المقال، ذكر كاتبه بأن هذا القانون جاء استجابة لمطالب بـ «تفعيل كافة القوانين الجنائية بعد تكرر حالات الاغتصاب العلني في الشارع». واختتم الكاتب مقاله بالقول: «قد يفزع المغتصبون في المغرب من هذا القانون الجديد… لكن ليس الآن على أقل تقدير، فليس هناك قانون من هذا النوع بعد، ما دام الخبر مرتبطا بكذبة أول أبريل». وقد شاع الخبر بين المدونين والمغردين في المملكة على أنه حقيقة، دون أن يدرك أحد أن الموقع تعمد نشر خبر كاذب، لخداع قرائه بـما يطلق عليه «كذبة أبريل». وعلى إثر نشر المقال، وعلى إثر تداول صورة بشعة لآثار الدماء التي خلفتها واقعة اغتصاب وهتك عرض طفلة في العاشرة من العمر، دعت رئيسة منظمة مغربية ضد البيدوفيليا إلى تطبيق عقوبة الإخصاء على المتحرشين، مؤكداً أنها هي الحل (راجع: بوابة أصوات مغربية، 13 أبريل 2018م، خبر تحت عنوان: «رئيسة منظمة مغربية ضد البيدوفيليا: الإخصاء هو الحل!»).
وإزاء تصاعد هذه الدعوات، تساءل البعض عما إذا كان الإخصاء هو الحل (راجع: نورهان بليدي، «الإخصاء» هو الحل؟، بوابة الشروق، أقلام المجلة، 23 يوليو 2017م. راجع أيضاً: جريدة صوت الأمة، القاهرة، السبت الموافق 4 يوليه 2020م، تحقيق تحت عنوان: هل «الإخصاء» هو الحل؟ .. وقائع قطع العضو الذكرى لـ «المغتصبين والمتحرشين»). كذلك، يثور التساؤل عن مدى شرعية ومدى إنسانية هذه العقوبة. ويثور التساؤل أيضاً عما إذا كانت ثمة دول طبقت فعلاً هذه العقوبة، أم أن الأمر ما زال في طور الجدال النظري الفلسفي، دون أن يتطور الأمر فعلاً إلى تقنين هذه العقوبة وإدراجها ضمن الترسانة العقابية المطبقة في مواجهة المتحرشين ومرتكبي جرائم الاعتداء على العرض. وإذا كانت عقوبة الإخصاء مطبقة في بعض التشريعات، فهل يعد ذلك نهجاً سائداً في التشريع المقارن، أم أن ثمة بدائل أخرى يمكن اللجوء إليها بما يحقق الغرض ذاته، وهو وقاية المجتمع، وبدون التدخل جراحياً أو كيميائياً بما قد يلحق ضرراً لا يمكن تداركه بالنسبة للجاني. كذلك، يثور التساؤل عن مدى جواز إنشاء سجل الكتروني للمتحرشين، بحيث يمكن لكل مواطن الدخول عليه والتثبت مما إذا كان شخصاً ما مدرجاً في هذا السجل أم لا. وللإجابة عن هذه التساؤلات، نرى من الملائم تقسيم هذا المقال إلى أربعة محاور، كما يلي:
عقوبة الإخصاء في الفتاوى الشرعية
في يوم الاثنين الموافق الرابع والعشرين من مارس 2014م، وفي حديث تليفزيوني، أبدى عميد كلية الشريعة سابقاً بجامعة الإمام الشيخ سعود بن عبد الله الفنيسان تأييده لتطبيق الإخصاء الكيميائي كحل رادع لمن اعتاد التحرش بالأسواق أو الاعتداء الجنسي على الآخرين، قائلاً إن «الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الاختصاء، ولكن لو توصل العلم لعلاج كيميائي يقضي على الشهوة عند المنحرفين فأرى جوازه»، دون تحديد إجازته تلك بأن كان هذا العلاج مؤقتا أو يقضي على الشهوة تماماً. وبرر الفنيسان فتواه بأنه رغم وجود قوانين للتحرش في دول عدة، فإنها لم تنجح في أن تضع حداً لهذه المشكلة، مشيراً إلى أن الضابط في هذه القوانين غير دقيق. وأضاف أن الملتزم في السعودية هو نفسه الملتزم في أمريكا بينما المتحرش شخص ضعف لديه ضابط الضمير، متابعاً أنه رأى جواز الإخصاء كحل مؤثر لعلاج هذه الظاهرة، ولو وُجد القانون الذي يقضى على هذه الظاهرة، فهو معه وأولى بالتطبيق من فكرة الإخصاء.
وقد أثارت هذه الفتوى العديد من الاعتراضات، حيث يفتي البعض بعدم جواز الإخصاء الكيميائي للمتحرش جنسياً شرعاً، مشيرا إلى أن مصطفي صادق الرافعي قال إنه لو جيء إليه بفتي يعاكس فتاة فإنه ينظر في حالة الفتاة أولاً. فإن كانت متبرجة، حكم عليها بعقوبتين؛ الأولي لأنها خدشت حياء الفتى، أما الثانية فلأنها كشفت اللحم للهر، مؤكدا أن هذا الحديث يدل على أن الفتاة هي التي تسمح بالتحرش بها، مشيراً إلى أنه لو كل امرأة أصبحت راضية بالرجل على وضعه وإمكانياته المادية لما كان هناك تحرشاً. ويضيف أنصار هذا الرأي بأنه إذا هناك بعض الشباب يعاكسون بنات شريفات عفيفات من باب السفالة، فحكم الدين في هؤلاء هو أنه علي الحاكم أن يعزرهم أي يوقع عليهم عقوبة تتناسب وفعلتهم، أما الإخصاء فلم يقل به أحد، لافتاً إلى انه كان قد أجاز بعض العلماء الإخصاء للبهائم من أجل كثرة اللحم، لكنهم عادوا وكرهوا إخصاءهم. وإذا كان هذا هو الشأن بالنسبة للبهائم، فكيف نسمح بإخصاء شاب حدثت منه هفوه وباب التوبة مفتوح للإنسان. ومهما كانت المبررات، فإن الإسلام نهي عن مثل هذه الأفعال، وأن التشريع الجنائي يوجب الإسراع في حالات الإعدام والتي تستوفي الشروط الشرعية، بأن يختار أسرع وأخف وسيلة لإعدام الجاني. وعلى هذا النحو، يخلص أنصار الرأي القائل بعدم جواز الإخصاء إلى أن العقوبة الشرعية للمتحرش جنسياً هي «التعزير» من جانب الحاكم، وهي كلمة غير مفسرة، لذلك تركت لاجتهاد العلماء الذين قالوا فيها أن يقوم الحاكم بتوبيخ المتحرش أو ضربة أو سجنه، ويمكن تغليظ العقوبات على المتحرشين جنسياً بشكل لا يؤدي إلى تشويه بدن الآدمي.
عقوبة الإخصاء في خطة التشريعات المقارنة
تشكل جرائم الاعتداء الجنسي على الأطفال والبالغين مشكلة كبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يسعى القائمون على رسم السياسة الجنائية فيها إلى استحداث العقوبات والتدابير اللازمة لمواجهة هذه الظاهرة الإجرامية الخطيرة. ولمعالجة المخاوف المتزايدة بشأن عودة مرتكبي الجرائم الجنسية إلى الجريمة، واعتباراً من العام 1996م، أصدرت تسع ولايات أمريكية تشريعات تسمح باستخدام إما الإخصاء الكيميائي أو الجراحي.
وفي معظم هذه القوانين، ترتبط أهلية الجاني المتكرر للإفراج مع المراقبة القضائية أو الإفراج المشروط بقبول العلاج الهرموني الإلزامي. وهكذا، فإن ما يسمى «الإخصاء الجراحي» أو «الكيميائي» هو عقوبة موجودة بالفعل في عدة ولايات أمريكية، لكنها عقوبة قصوى لا تطبّق إلا على المغتصبين، في حين تقدم هذه العقوبة في بعض الولايات مثل أوهايو وألينوي وأركنساس كبديل عن عقوبة السجن المؤبد في قضايا الاغتصاب، وتلجأ ولاية كولورادو مثلا إلى إعطاء عقاقير مثبطة لمن اعتادوا على التحرش.
وفي كوريا الجنوبية، يجوز للمحكمة أن تقضي بإخصاء المدانين بارتكاب جرائم الاعتداء الجنسي على الأطفال ممن تقل أعمارهم عن ستة عشر عاماً. وتجدر الإشارة في هذا الصدد أن المحكمة الدستورية في كوريا الجنوبية قضت بدستورية عقوبة الإخصاء الكيميائي.
وفي إندونيسيا، وهي أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، ثمة قانون يجيز للمحكمة أن تعاقب مرتكبي جرائم الاعتداء الجنسي على الأطفال بالحقن بهرمونات أنثوية تجعل رغبتهم الجنسية تتلاشى وتنعدم.
هل توجد عقوبات أكثر إنسانية يمكن اللجوء إليها عوضاً عن الإخصاء؟
البين من تقرير عقوبة الإخصاء أن الهدف هو القضاء على الخطورة الإجرامية للجاني، ومنع عودته إلى ارتكاب جريمته مرة أخرى في المستقبل. وقد ارتأت بعض التشريعات أن هذا الهدف يمكن تحقيقه من خلال بعض التدابير الجنائية الأخرى. فعلى سبيل المثال، ووفقاً للمادة الرابعة والخمسين من القانون الاتحادي رقم (3) لسنة 2016 بشأن قانون حقوق الطفل «وديمة»، «1- يُحظر على كل من أدين في جريمة من جرائم الاعتداء الجنسي أو جريمة من جرائم إباحية الأطفال أن يعمل في وظيفة أو عمل يجعله يتصل فيه اتصالًا مباشرًا مع الأطفال أو يخالطهم بسببه وإن رد إليه اعتباره. 2- يحكم القاضي على كل من أدين بجريمة اعتداء جنسي على طفل بأن يمنع المدان من الإقامة في المنطقة التي يسكن فيها الطفل المعتدى عليه بحدود خمسة كيلومترات مربعة محيطة بمقر إقامة الطفل. 3- وفي جميع الأحوال لا يتم الإفراج عن الشخص المحكوم عليه بالحبس أو بالسجن في جريمة من جرائم الاعتداء الجنسي على طفل إلا بعد أن يتم إخضاعه قبل انتهاء مدة حبسه أو سجنه لفحوصات واختبارات نفسية للتأكد من عدم تشكيله خطورة اجتماعية، وفي حالة ثبوت ذلك تأمر المحكمة بإيداعه مأوى علاجيًا بعد انتهاء مدة حبسه أو سجنه، وتحدد اللائحة التنفيذية لهذا القانون تنظيم إيداع المحكوم عليه في مأوى علاجي وإجراءات النظر في طلبات الإفراج». وهذا النص لا مثيل له ولا نظير في القانون المصري وفي تشريعات دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى.
هل يجوز إنشاء سجل إلكتروني للمتحرشين للتعريف بهم وتنبيه الجمهور إلى خطورتهم؟
في الولايات المتحدة الأمريكية، يوجد سجل وطني لمرتكبي الجرائم الجنسية (NSOPW)، حيث يمكن لعامة الناس من خلال موقع إلكتروني مخصص لهذا الغرض الدخول على الموقع والبحث والتثبت عما إذا كان شخص ما مرتكباً جريمة أو جرائم جنسية أم لا. ويمكن البحث بالاسم الأول والاسم الأخير. كذلك، يمكن البحث بالموقع، لمعرفة مرتكبي الجرائم الجنسية في محيط المنزل الذي تقطن به أو في محيط منطقة معينة، وذلك من خلال إدخال العنوان واسم المدينة.
كذلك، وفي شهر ديسمبر 2020م، أصدرت جمهورية باكستان الإسلامية قانوناً جديداً لمكافحة جرائم الاغتصاب، حيث أنشأت محاكم خاصة لمحاولة تسريع الملاحقات القضائية، وإنشاء سجل وطني لمرتكبي الجرائم الجنسية.
وربما يثير ذلك التساؤل مرة أخرى عن مدى ملاءمة التنفيذ العلني للأحكام الصادرة ضد مرتكبي الجرائم الجنسية. وهذا التساؤل يجد له سنداً شرعياً، متمثلاً في إشهاد طائفة من المؤمنين لجلد الزانية والزاني، حيث يقول تعالى في الآية الثانية من سورة النور: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ.. وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.