صناعة التشريعات الجنائية في عالم متغير
بقلم/ الدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
في الثاني من فبراير 2020م، وبموجب القانون رقم (6) لسنة 2020م، تم استبدال المادة (293) من قانون العقوبات، بحيث غدا نص الفقرة الأولى منها كما يلي: «كل من صدر عليه حكم قضائي واجب النفاذ بدفع نفقة لزوجه أو أقاربه أو أصهاره أو أجرة حضانة أو رضاعة أو مسكن وامتنع عن الدفع من قدرته عليه لمدة ثلاثة أشهر بعد التنبيه عليه بالدفع، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تتجاوز خمسة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.
ولا ترفع الدعوى عليه إلا بناءً على شكوى أو طلب من صاحب الشأن». أما الفقرة الثانية من المادة ذاتها، فتنص على أنه «إذا رفعت بعد الحكم عليه دعوى ثانية عن هذه الجريمة فتكون عقوبته الحبس مدة لا تزيد على سنة».
واستحدثت الفقرة الثالثة من المادة ذاتها حكماً جديداً ليس له نظير في المنظومة الجنائية المصرية، وأكاد أجزم بأنها المرة الأولى التي يقرر فيها المشرع المصري هذا الأثر القانوني للحكم الصادر بالإدانة، بنصه على أن «يترتب على الحكم الصادر بالإدانة تعليق استفادة المحكوم عليه من الخدمات المطلوب الحصول عليها بمناسبة ممارسته نشاط المهني والتي تقدمها الجهات الحكومية، والهيئات العامة، ووحدات القطاع العام وقطاع الأعمال العام، والجهات التي تؤدى خدمات مرافق عامة، حتى أدائه ما تجمد في ذمته لصالح المحكوم له وبنك ناصر الاجتماعي حسب الأحوال». وتخول الفقرة الرابعة «للمجني عليه أو وكيلة الخاص ولورثته أو وكيلهم الخاص وكذا بنك ناصر الاجتماعي أن يطلب من النيابة العامة أو المحكمة المختصة، بحسب الأحوال وفى أي حالة كانت عليها الدعوى، إثبات تصالحه مع المتهم. ويترتب على التصالح انقضاء الدعوى الجنائية وتأمر النيابة العامة بوقف تنفيذ العقوبة إذا تم التصالح أثناء تنفيذها ولو بعد صيرورة الحكم باتًا، ولا يرتب الصلح أثره إذا تبين أن المحكوم لصالحه قد تقاضى من بنك ناصر الاجتماعي كل أو بعض ما حكم به لصالحه، ما لم يقدم المتهم أو المحكوم عليه شهادة بتصالحه مع البنك عما قام بأدائه من نفقات وأجور وما في حكمها وجميع ما تكبده من مصاريف فعلية أنفقها بسبب امتناع المحكوم عليه عن أدائها».
وفي الإطار ذاته، واتساقاً مع النهج التشريعي المتبع في شأن بعض جرائم الصلح، والذي يجعل من السداد صنو الصلح، تنص الفقرة الخامسة من المادة ذاتها على أنه «في جميع الأحوال، إذا أدى المحكوم عليه ما تجمد في ذمته أو قدم كفيلاً يقبله صاحب الشأن فلا تنفذ العقوبة».
وأخيراً، تنص الفقرة السادسة على أن «يصدر بتحديد تلك الخدمات وقواعد وإجراءات تعليقها وإنهائها قرار من وزير العدل بالاتفاق مع الوزراء المختصين». ونعتقد أن هذه الفقرة الأخيرة كان ينبغي أن تأتي تالية مباشرة للفقرة الثالثة من المادة ذاتها.
وعلى كل حال، وأياً كان وجه الرأي في شأن الصياغة التشريعية وترتيب فقرات المادة سالفة الذكر، فإن تطبيق هذا الأثر القانوني المترتب على صدور الحكم بالإدانة في جرائم الامتناع عن دفع النفقة أو أجرة المسكن أو الحضانة أو الرضاعة، وهو تعليق استفادة المحكوم عليه من الخدمات الحكومية، مرهون بصدور القرار الوزاري بتحديد تلك الخدمات وقواعد وإجراءات تعليقها وإنهائها.
وعلى حد علمنا، فإن هذا القرار لم يصدر حتى تاريخه، ونظراً لحداثة هذا الأثر القانوني وعدم وجود نظير له في أي من التشريعات المصرية، فإن صدور هذا القرار قد يستغرق وقتاً طويلاً. بل إن الخشية قائمة من عدم صدوره على الإطلاق. ولعل ذلك يؤكد مرة أخرى أهمية صناعة التشريعات والاعتبارات التي يقوم عليها إصدار النص على نحو قانوني معين ومدى مراعاة قواعد الملاءمة التشريعية والتنفيذية. فلا يكفي مجرد الحرص على تنفيذ الأحكام الصادرة في قضايا النفقة، وما يمثله ذلك من حس إنساني راق من خلال دعم المرأة المطلقة وتمكينها في مواجهة أعباء الحياة.
ومن جانبنا، ولتوفير الدعم القانوني اللازم وصولاً لإصدار القرار الوزاري المشار إليه، نرى من المناسب الإشارة أولاً إلى أن المشرع يضع معياراً عاماً للخدمات التي يجوز تعليق الاستفادة منها، مقرراً أن هذا الأثر قاصر فحسب على «الخدمات المطلوب الحصول عليها بمناسبة ممارسته نشاط المهني والتي تقدمها الجهات الحكومية، والهيئات العامة، ووحدات القطاع العام وقطاع الأعمال العام، والجهات التي تؤدى خدمات مرافق عامة».
فلا يمتد هذا الأثر إلى الخدمات غير ذات الصلة بممارسة النشاط المهني.
ومن ناحية أخرى، قد يكون من الملائم استعراض بعض التجارب المقارنة في شأن تعليق الاستفادة من الخدمات الحكومية في حالة الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية أو في حالة الامتناع عن دفع المستحقات المالية للدولة. وانطلاقا من ذلك، نعتقد من الملائم الإشارة إلى المادة السادسة والأربعين من نظام التنفيذ السعودي، الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/53 وتاريخ 13/8/1433هـ، بنصها على أنه «إذا لم ينفذ المدين، أو لم يفصح عن أموال تكفي للوفاء بالدين خلال خمسة أيام من تاريخ إبلاغه بأمر التنفيذ، أو من تاريخ نشره بإحدى الصحف إذا تعذر إبلاغه، عد مماطلاً، وأمر قاضي التنفيذ حالاً بما يأتي:
1- منع المدين من السفر.
2- إيقاف إصدار صكوك التوكيل منه بصفة مباشرة، أو غير مباشرة في الأموال وما يؤول إليها.
3- الإفصاح عن أموال المدين القائمة وعما يرد إليه مستقبلاً، وذلك بمقدار ما يفي بالسند التنفيذي، وحجزها، والتنفيذ عليها، وفقًا لأحكام هذا النظام.
4- الإفصاح عن رخص وسجلات أنشطة المدين التجارية، والمهنية.
5- إشعار مرخص له بتسجيل المعلومات الائتمانية بواقعة عدم التنفيذ.
ولقاضي التنفيذ أن يتخذ – إضافة إلى ما سبق بحسب الحال – أيًّا من الإجراءات الآتية:
أ- منع الجهات الحكومية من التعامل مع المدين، وحجز مستحقاته المالية لديها، وأن عليها إشعار قاضي التنفيذ بذلك.
ب- منع المنشآت المالية من التعامل معه بأي صفة.
ج- الأمر بالإفصاح عن أموال زوج المدين، وأولاده، ومن تشير القرائن إلى نقل الأموال إليه، أو محاباته، وإذا تبين الاشتباه بأن هناك أدلة أو قرائن على إخفاء الأموال، يحال الطلب إلى قاضي الموضوع للنظر فيه.
د- حبس المدين، وفقًا لأحكام هذا النظام».
واستناداً إلى هذا النظام، صدر تعميم وزارة العدل رقم 13/ت/6608 وتاريخ 26 /3 /1438 بإطلاق خدمة الربط الإلكتروني مع وزارة الداخلية فيما يتعلق بالأوامر الصادرة من قضاء الموضوع بشأن الإبلاغ بالمراجعة وايقاف الخدمات والمنع من السفر وإلغاء القبض والاستفسار من المطلوبين. كذلك، صدر التعميم رقم (13/ ت/ 7308) بتاريخ 25/7/1439هـ بشأن ضابط إيقاف الخدمات الحكومية، وجاء فيه أنه «بدراسة موضوع إيقاف الخدمات الحكومية في ضوء الأنظمة واللوائح والتعليمات ذات الصلة، يتضح أن المقصد من إيقاف الخدمات من قبل المحاكم هو إلجاء المنفذ ضده إلى الوفاء بالمطالبة فيما يتعلق بقضاء التنفيذ، وإلجاء الموقفة خدماته للحضور إلى المحكمة فيما يتعلق بقضاء الموضوع، وأن وقف الخدمات يجب أن يقتصر على المحقق للمقصود ولا يتعدى لغيره، ولا يتوسع فيه، وأن ما قد يترتب عليه من ضرر على التابعين أو إخلال بالحقوق الأساسية ليس مرادًا للقضاء، وأن الضابط المعتبر هو: (ألا يترتب على إيقاف الخدمات الحكومية ضرر على التابعين للموقفة خدماته، وألا يشمل وقف الخدمات الحقوق المتعلقة بالعلاج أو التعليم أو العمل، أو توثيق الوقائع المدنية، أو استخراج وتجديد الأوراق الثبوتية، وألا يترتب على وقف الخدمات ضرر عام كوقف الخدمات عن المرابطين على الحدود) مع التأكيد على أن وقف الخدمات من المحاكم يجب أن يكون بأمر أو قرار قضائي».
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن المادة السادسة والأربعين من اللائحة التنفيذية لنظام التنفيذ، الصادرة بموجب قرار وزير العدل رقم (526) وتاريخ 20/2/1439هـ، كانت تجري على أن:
«46- 1/ متى طلب الدائن عدم تنفيذ مقتضى الفقرات (1- 2- 3- 4) والفقرات (أ- ب- ج- د)، أو بعضها؛ فيجيبه قاضي التنفيذ، بعد أخذ إقرار عليه بذلك.
46/2- للدائرة – عند الاقتضاء- الإذن للمدين بالسفر بعد منعه بضمان، أو كفيل غارم، أو إذا ثبت بتقرير طبي حاجته للعلاج خارج المملكة.
46- 3/ للدائرة الأمر بإيقاف إصدار الوكالات، والتفويضات الرسمية المعتمدة الصادرة من غير الجهات العدلية.
46- 4/ إذا ظهر للدائرة أن منع الجهات الحكومية من التعامل مع المدين يترتب عليه ضرر عام؛ فعليها التوقف عن المنع، وتجري ما تراه محققًا للعدل.
46- 5/ يشمل منع الجهات الحكومية من التعامل مع المدين إيقاف خدماته الإلكترونية الحكومية.
46- 6/ الحبس المذكور في هذه المادة حبس تنفيذي وفق ما ورد في المادة (الثالثة والثمانين) من النظام.
ونظرا لصعوبات جمة أسفر عنها تطبيق المادة السادسة والأربعين من نظام التنفيذ ولائحته التنفيذية، خاصة ما يتعلق منها بإيقاف الخدمات الإلكترونية الحكومية للمدين المحكوم عليه، فقد صدر قرار وزير العدل رقم 7207 وتاريخ 4/ 6/ 1441هـ بتعديل اللائحة التنفيذية لنظام التنفيذ، متضمناً معالجة تنظيمية للصعوبات المتصلة ذات الصلة بما يسمى «إيقاف الخدمات الحكومية الإلكترونية»، ليقتصر الأمر على منع «التعامل المالي» فقط، وبحيث شملت التعديلات إلغاء المادة (46/5) من اللائحة التنفيذية لنظام التنفيذ، والتي كانت تنص على أن «يشمل منع الجهات الحكومية من التعامل مع المدين إيقاف خدماته الإلكترونية الحكومية».
من ناحية أخرى، وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، وبتاريخ الثامن عشر من فبراير 2021م، صدر قرار رئيس دائرة البلديات والنقل رقم (26) لسنة 2021 بشأن وقف الخدمات والمعاملات للأشخاص الذين تترتب عليهم التزامات للدائرة والجهات التابعة لها.
وطبقاً للمادة الأولى من هذا القرار، وتحت عنوان «وقف الخدمات والمعاملات»، «يتم وقف تقديم الخدمات والمعاملات والطلبات لدى كافة البلديات لأي شخص طبيعي أو اعتباري في حال وجود أي التزام مترتب عليه أو مستحق الوفاء لصالح الدائرة أو أي من الجهات التابعة لها، على أن يستأنف تقديم الخدمات والمعاملات والطلبات لذلك الشخص بعد تنفيذه لذلك الالتزام أو وفائه به مباشرة، ويشمل ذلك كافة الشركات والمؤسسات والأفراد، بما فيهم على سبيل المثال لا الحصر: مزاولي المهن العقارية، والمهندسين، ومكاتب الاستشارات الهندسية، والمقاولين».
وتحدد المادة الثانية حالات وقف الخدمات والمعاملات، وشروطه، مع التمييز في هذا الشأن بين ما إذا كان وقف القيد مترتباً على الامتناع عن سداد التزام مالي مستحق الأداء، أم كان مترتباً على ارتكاب مخالفة ما، أو كان مترتباً على عدم تنفيذ الملاحظات والأوامر الواردة في المراسيم. وتحدد المادة الثالثة قائمة بالاستثناءات من وقف المعاملات والخدمات، مع بيان ضوابط تطبيق كل استثناء منها.
وتتضمن المادة المشار إليها ثمانية استثناءات: أولها، الخدمات والمعاملات والطلبات المرتبطة بالعقارات التي يمتلك/ ينتفع/ يستأجر الشخص الملتزم حصة فيها مع شركاء آخرين. أما ثانيها، توثيق عقود الإيجار. وثالثها، هو الخدمات والمعاملات والطلبات المرتبطة بعقارات الورثة.
والاستثناء الرابع هو تسجيل عقود البيع. والاستثناء الخامس هو صرف المواد الغذائية. أما الاستثناء السادس، فهو رخص أعمال الصيانة والهدم. وينصب الاستثناء السابع على طلبات المقاول في مشروع معين. ويأتي أخيراً الاستثناء المتعلق بإصدار شهادة أملاك للجهات الخيرية والحالات الخاصة.
وفي الختام، أود التأكيد على ضرورة التأني والدراسة المستفيضة قبل إصدار القرار الوزاري بتحديد تلك الخدمات وقواعد وإجراءات تعليقها وإنهائها، تفادياً لأي إشكاليات أو صعوبات قد تنشأ في التطبيق على تعليق استفادة المحكوم عليه من الخدمات الحكومية. والله من وراء القصد…