شبهة الخرافة في كثير من العقائد الدينية

نشر بجريدة الشروق الخميس 28/10/2021
ــــــ
بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية نفيب المحامين

تابعنا مع الأستاذ العقاد فى المقال السابق , شبهة الشر , أقدم الشبهات التى صادفت عقل الإنسان منذ عرف التفرقة والتضاد بين الخير والشر , وكيف خلُص إلى أن وجود الشر فى العالم لا يناقض صفة الكمال الإلهى ولا صفة القدرة الإلهية لأن الشر فى حقيقته مشكلة الهوى الإنسانى , وأن الشعور الإنسانى فى هذه المشكلة يتطلب الدين ويتنادى إليه , وهنا يتجلى فساد منطق من يخلطون خلطاً معيبًا الخرافات بالعقل , بحيث يصعب عليهم أحيانًا التوفيق بين عقائد الدين وحقائق العلم .
وشبهة الخرافة تعيدنا ــ فيما يقول ــ إلى السؤال : كيف يكون الدين حَسَناّ فى منطق المبطلين وكيف يتصورونه ؟
هنا يبدو وكأنهم يقترحون دينًا لا يركن إليه إلاَّ النخبة المختارة من كبار العقول التى لا تتسرب إليها الخرافة ، أو يقترحون دينًا يتساوى فيه كبار العقول وصغارهم تساويًا آليًا لا عمل فيه لاجتهاد الروح وتربية الضمير ، أو يقترحون دينًا يتبدل فى كل فترة تبدلاً آليًا كلما تبدلت المعارف فى مختلف الأزمنة أو مختلف البلدان .
ومهما سايرنا هذه المقترحات إلى غير نهاية ، فإننا لن ننتهى إلى أى مقترح أقرب إلى التصور وأيسر من الدين .
فحاجة البسطاء والجهلاء أو صغار العقول إلى تعاليم الدين والبعد عن الخرافة ، أمسُّ من حاجة النخبة المختارة من كبار العقول .
وتساوى الناس تساويًا آليًا إزاء حقائق الكون ، نكسة تنتهى بهم إلى حالة من أحوال الجماد لا عمل فيها لاجتهاد الروح ولا لتربية الضمير .
أما أن تتبدل العقائد فى كل لحظة تتغير فيها مدركات العلوم والمعرفة ، فحالة غير قابلة للتصور فى أى جماعة .
فكل الصور المقترحة خيال سقيم لا يستقيم حتى مع الخيال .
وقد كان يمكن أن يقال عن نشاة التدين بين جماعات البشر ، أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان ، لولا أن ذلك يتأبى مع تطاول الزمان وما قد يطرأ فيه من ممكنات كانت مستحيلة بالأمس .
وينبغى من ثم أن نتذكر أن التعبير الرمزى والعقيدة الإيمانية لازمتان من لوازم الشعور الدينى ، ولا يتأتى لنا أن نفهم ظواهره وخوافيه ما لم نكن على استعداد لتفسير هذا التعبير وقبول ذلك الإيمان .
ليس أصدق عند الإنسان من إدراك العيان ، ومع ذلك فهو فى صحيحه تعبير رمزى نضع له من الأسماء ما قد لا يطابق الواقع إلاَّ مطابقة الرمز للحقيقة التى يرمز إليها .
ومن أمثلة العقيدة الإيمانية الملموسة فى كل الأحياء ، محبة الذرية ، وهى محبة مشتركة بين الآباء والأمهات ، وفى جميع الأحياء . ولا بقاء لأنواع الأحياء بغير هذه العقيدة .
* * *
فإذا كنا فى كل ما ناقشناه عقليين واقعيين ، فلماذا لا نحتكم إلى العقل والواقع فى مسألة الدين ، وماذا لو أضفنا حجة الواقع إلى حجة العقل فى هذه المسألة ؟ إن تجارب التاريخ تقرر لنا أصالة الدين فى جميع حركات التاريخ الكبرى ، ولا يمكن لأحدٍ أن يزعم أن بمستطاع الفرد أو الجماعة ـ الاستغناء عن العقيدة الدينية فى سريرته ، ويقرر لنا التاريخ أيضًا أنه لم يكن لأى عامل من العوامل أثر فعال فى الحركات الإنسانية أقوى وأعظم من عامل الدين ، وبأن قوة غيره من العوامل ـ إنما تتفاوت بمقدار ما بينها وبين العقيدة الدينية من المشابهة فى أصالة الشعور وبواطن السريرة .
وقوة الدين ، لا تضارعها قوة العصبية ولا قوة الوطنية ولا قوة العرف ولا قوة الأخلاق ولا قوة الشرائع والقوانين ، فإن الواضح أن قوة الدين مرجعها إلى علاقته بالوجود بأسره ، وميدان هذا الوجود داخل فيه هذه القوى على تنوعها ، وميدانه يتسع للظاهر والباطن ، وللعلانية والسر ، وللماضى والمصير ، وإلى غير نهاية بين آزال لا تحصى فى القدم وآباد لا تحصى فيما ينكشف عنه عالم الغيوب.
ومن أدلة الواقع على أصالة الدين ، أنك تلمس هذه الأصالة عند المقابلة بين الجماعة المتدينة والجماعة غير المتدينة أو التى لا دين لها .
وكذلك تلمس هذه الأصالة عند المقابلة بين فرد يؤمن بعقيدة من العقائد الشاملة ، وآخر معطل الضمير مضطرب الشعور يمضى فى الحياة بغير محور يلوذ به وبغير رجاء يسمو إليه .
فهذا الفارق ، سواءً بين جماعتين أو بين فردين ، كالفارق بين شجرة لها جذور راسخة فى منبتها ، وشجرة مجتثة من أصولها . وَقَلَّ أن ترى شخصًا معطل الضمير على شىء من القوة أو العظمة .
ويختم الأستاذ العقاد هذه الافتتاحية ، بأن غرضه من مناقشته الوجيزة لشبهات المترددين والمعطلين ، ليس حسم الخلاف أو بلوغ نهاية المطاف ، ولكن توطئة للإبانة عن مواطن الضعف والتهافت فى تلك الشبهات التى يعلم سلفًا أنها أضعف من أن تقتلع أصول العقيدة الدينية من الطبيعة الإنسانية .
وظاهر من سياق الكلام عن الدين فى هذه الافتتاحية أنه يعنى به التدين على إطلاقه ، ويريد أن يدل على أصالته فى حياة الفرد وحياة الأمة ، وأنه متى عرفنا هذه الأصالة المتجذرة من آلاف السنين ، فليس هناك ما يمنع بعد ذلك من النظر فى الديانات التى آمن بها البشر قديمًا وحديثًا ، لنرى أيها أفضل وأقرب إلى عقيدة الكمال .
وهذه الديانة إنما تفضل سواها بمقدار شمولها لطالب الروح ، وارتقاء عقائدها وشعائرها فى آفاق العقل والضمير .. وهكذا كانت الديانة الإسلامية ـ كما آمنا بها ـ ملة لا تفضلها ملة فى شمول حقائقها ، وخلوص عبادتها وشعائرها من شوائب الملل الغابرة.
وذلك هو موضوع هذا الكتاب فيما يعرضه من حقائق الإسلام ، وفيما يعرض له من أباطيل المفترين عليه .

شمول العقيدة الإسلامية

شمول العقيدة الإسلامية هو العامل القوى الذى يجمع إليه النفوس ويحفظ لها قوة الإيمان ، ويستغنى عن السيف وعن المال فى بث الدعوة . ويستشهد الأستاذ العقاد هنا بما أورده فى باب « العقيدة الشاملة » فى كتابه عن الإسلام فى القرن العشرين (1954) ، وسوف أعود لاحقًا لإلى ذلك الكتاب .
ولا بأس من أن نلم هنا إلمامة ولو سريعة ، بما انتقاه الأستاذ العقاد من كتابه عن الإسلام فى القرن العشرين ، ليستقيم لنا النظر فيما يلى من كتاب حقائق الإسلام .
ليس الشمول الذى امتازت به العقيدة الإسلامية صفة خفية يحتاج استظهارها إلى بحث عويص ، وإنما هى من حقائق الديانة التى تكفى الدراسة الوافية المقارنة للإلمام بها وبأوجه تمايزها عن باقى الديانات ، خاصة فى شعائرها ومراسمها التى يتلاقى عليها المؤمنون فى بيئاتهم الاجتماعية .
اختلف الإسلام ـ بشمول عقيدته ـ عن ديانات ارتبطت بالمعبد والكاهن والأيقونة ، فلم يرتبط الإسلام بشىء من ذلك ، وسن قاعدة تصل الإنسان بربه بلا وسيط ولا وساطة .
« فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ » (البقرة 115)
فيذهب المسلم إلى الحج فلا يذهب إليه ليغتنم من أحد بركة أو نعمة ، ولكنه يذهب إليه كما يذهب الألوف ليتجهوا جميعًا إلى الله فى شعائر الحج على سنة المساواة .. دون ما حاجة إلى كاهن أو كهانة .. بل ولا تفرض عليه شعائر الحج زيارة قبر الرسول ـ وإنما هى زيارة تحية لمحبوب ، وليست من مناسك الحج .
ولا يتلقى المسلم إسلامه عن وصى يتكفل به ، وكل المسلمين فقراء إلى الله ، وكلهم لا فضل لواحد منهم على سائرهم إلاَّ بالتقوى ، وكلهم فى المسجد سواء ، فإن لم يجدوا مسجدًا فمسجدهم كل مكان فوق الأرض وتحت السماء .
وعقيدة المسلم شىء لا يتوقف على غيره ، ولا تبقى منه بقية وراء سره وجهره ، ومن كان إمامًا فى مسجده فلن ترتفع به الإمامة مقامًا .. ومنذ يسلم المسلم يصبح الإسلام شأنه الذى ليس لأحدٍ حصةً فيه أكبر من حصته .
كذلك لا ينقسم المسلم قسمين بين الدنيا والآخرة ، أو بين الجسد والروح ، ولا يعانى فى ذلك فصامًا يشق على النفس احتماله ، وليس فى عقيدته حيرة أو انقسام .
« وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا » (القصص 77)
« وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً * مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ » (الأحزاب 3 ، 4)
عقيدة الإسلام توحد الإنسان وتجعله كلاًّ معنيًّا بدنياه وآخرته ، ولا تذهب به إلى فصام لا تستريح إليه سريرته .

زر الذهاب إلى الأعلى