سُكر العلانية

مقال بقلم د. أشرف نجيب الدريني

 

هل تبقى الحرية حرية إذا تجاوزت حدود الحياء العام؟ وهل يظل الفعل مباحًا حين ينتقل من الظل إلى الضوء، من الخاص إلى العام؟ وما الفرق بين اللذة الفردية التي يحميها القانون وبين الفجور الذي يهز ضمير الجماعة؟ أهي النية، أم المكان، أم علانية الفعل هي التي تصنع الجريمة؟ تلك الأسئلة تُشكل معادلة قانونية دقيقة تختبر مدى نضج المجتمعات في الموازنة بين الحرية والمسؤولية.

 

في إحدى الليالي، خرج شاب وشابة من ملهى ليلي مرخص، وقد بدت عليهما آثار الشراب واللهو. ما كان داخل الملهى مباحًا وفق القانون طالما ظل في إطاره المرخص، ولكن ما إن عبرا عتبة المكان إلى الشارع حتى انقلبت الموازين. هناك، حيث يبدأ المجال العام، أقدما على فعل فاضح يراه المارة. لم يعد المشهد آنذاك تعبيرًا عن حرية شخصية، بل عدوانًا على الحياء الجمعي، فامتدت يد القانون لتوقف سُكر اللذة عند حدود النظام العام. هنا تتجلى المفارقة الكبرى: الإباحة داخل المكان لا تمتد خارجه، فالحرية في القانون ليست مطلقة، بل تتشكل ضمن نطاق المكان والسياق الاجتماعي الذي يحدها.

 

القانون المصري كان واضحًا حين نص في المادة 278 من قانون العقوبات على أن كل من فعل علانية فعلًا مخلًا بالحياء يُعاقب بالحبس أو الغرامة. فالعقوبة لا تتعلق بالفعل في ذاته، بل بعلانيته، أي بإخراجه من نطاق الذات إلى فضاء الجماعة. ولعل هذه الفلسفة تعكس جوهر وظيفة القانون الجنائي في ضبط التوازن بين المباح والمحظور، بين الحرية كقيمة فردية والحياء كقيمة اجتماعية.

 

لكن المسألة لا تقف عند هذا الحد. فلو افترضنا أن كاميرا مراقبة التقطت تلك الواقعة، وأن أحد الأشخاص نشر المقطع على الإنترنت، فهل تظل الجريمة ذاتها؟ أم أننا أمام جريمة جديدة تمامًا؟ هنا يتغير مفهوم العلانية جذريًا، إذ لم تعد العلانية مقصورة على الطريق العام، بل أصبحت رقمية، تمتد إلى فضاء لا تحده الجغرافيا ولا ينتهي في الزمن. أصبحت الصورة الخاطفة فعلًا متكررًا يُشاهَد ملايين المرات، ويتحول الحياء العام من مبدأ قانوني إلى جرح إنساني مفتوح.

 

في هذه الحالة، الفاعلان الأولان مسؤولان عن فعل فاضح علني، أما من قام بالنشر، فقد ارتكب جريمة قائمة بذاتها بموجب المادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، التي تجرّم الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة عبر نشر أو عرض محتوى ينتهك خصوصية الغير، ولو وقع الفعل في مكان عام. فالقانون هنا لا يعاقب على الواقعة الأصلية فحسب، بل على إعادة إنتاجها رقمياً أمام جمهور لا يُحصى.

 

وإذا نظرنا إلى التجارب المقارنة، نجد أن القانون الفرنسي في المادة 222-32 من قانون العقوبات يساوي بين العلانية الواقعية والعلانية الافتراضية، فيجعل نشر الأفعال المخلة بالحياء عبر الوسائط الإلكترونية نوعًا من “exhibition sexuelle” يعاقب عليه بذات القدر. وفي بريطانيا، أرست محكمة الاستئناف في قضية R v Smith (2011) مبدأ مفاده أن العلانية لا تقتصر على المكان الفيزيائي، بل تشمل كل وسيط يجعل الفعل متاحًا للجمهور، حتى لو كان التسجيل في أصله خاصًا.

 

هنا تتكشف أمامنا طبقات جديدة من المسؤولية، لم تعد تقتصر على من ارتكب الفعل، بل تمتد إلى من صوره، ومن نشره، ومن أعاد تداوله. الكل أسهم في صنع “العلانية” التي هي جوهر الجريمة. فالعلانية لم تعد جغرافية بل تفاعلية، ولم تعد ابنة المكان بل وليدة المشاركة. بهذا المعنى، يصبح كل فعل مرئي قابلًا لأن يتحول إلى حدث عام، وكل عين تحمل هاتفًا هي شاهد وشريك محتمل في صناعة الفضيحة.

 

وفي جوهر هذا كله، تظهر رسالة القانون الجنائي: ليس هدفه العقاب بقدر ما هو صون لكرامة الإنسان، وضبط لحريته حتى لا تنقلب إلى فوضى. فالإنسان في لحظة الوعي المفقود- سواء بسُكر الشراب أو سُكر العلانية- يفقد قدرته على التمييز بين ذاته ومجتمعه، بين لذته وحياء الآخرين. وهنا يتدخل القانون لا ليعاقب لذّة عابرة، بل ليذكّر الإنسان بحدوده، وليحمي التوازن الدقيق بين الفرد والجماعة، بين الحرية والانضباط، بين الرغبة والمسؤولية.

 

إن “سُكر العلانية” لم يعد مقصورًا على الجسد الذي انكشف في الطريق، بل أصبح وعيًا غائبًا أمام شاشة، وانسياقًا وراء نشوة المشاهدة والنشر. لقد صار الفضاء الرقمي شارعًا بلا جدران، تُرتكب فيه الجرائم وتُضاعف آثارها في لحظة واحدة. وفي هذا العالم المتشابك، لا شيء يضيع، ولا فعل يبقى في الخفاء.

 

وهكذا، حين نعود إلى أسئلتنا الأولى- هل تبقى الحرية حرية حين تنكشف؟ وهل تنجو اللذة حين تُعرَّى؟- نجد أن الجواب واحد في كل زمان ومكان: الحرية التي تتجاوز الحياء لا تُحرِّر الإنسان بل تفضحه، والنظام العام ليس قيدًا على الحرية بل سياج يحمي إنسانيتها. فبين سُكر الجسد وسُكر الشهرة، بين لذة الفعل ونشوة النشر، يقف القانون الجنائي ليعيد للعقل اتزانه، وللحرية معناها، وللإنسان إنسانيته. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى