زحف الدنيا وصفاء الإيمان ! (2)
من تراب الطريق (964)
زحف الدنيا وصفاء الإيمان ! (2)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 27/10/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
ربطنا المباشر بالكون العظيم بعيدًا عن الأرض التي لا تبدو من الفضاء إلاّ نقطة ضئيلة باهتة زرقاء ، أو كما نرى القمر ، أو كما نرى بالعين أو بالمنظار توابع الشمس .. هذا الربط لا يبعدنا ولا يمكن أن يبعدنا عن الزمان والمكان والحركة الجارية المستمرة في أفلاك هذا الكون العظيم !
ولم يلتفت الآدميون التفاتًا جادًا واعيًا فاهمًا إلى الكون العظيم ـــ إلاّ حديثًا جدًّا .. بدأوا محاولات الانتقال إلى الفضاء المحيط بكوكبنا، ثم العودة منه إلى الأرض، ومع هذه الرحلات تيقظ بعض علمائهم والمتابعون لهم إلى سعة الكون سعةً هائلةً بغير حدود، وأقدم بعض حكامهم على المغامرة بإيفاد من يصل إلى سطح القمر .. قمر الأرض .. ليعود منه إلى الأرض بما أمكنه جمعه من سطحه الذى مشى عليه ـ من أجسام وصور وقياسات وهو مصون في غلاف حفظه في رحلته ومَكّنه من الحياة والحركة واليقظة والانتباه والوصف الدقيق لما شاهده هناك !
وقد تتكرر أمثال هذه التجارب مرات ومرات بالمركبات الآلية المبرمجة الخالية من الآدميين، التي نقلت من الأمكنة التي شاهدتها عن قرب ـ ما سجلته منها في رسائل متتالية بغير انقطاع إلى منظريها من العلماء والفنيين المتابعين من على الأرض .. وكلما أتقن العلماء والفنيون اجتهادهم في المزيد من إحكام استبصارهم ــ كلما شغلهم الكون العظيم وآياته المبهرة ـــ عن الانحصار في المشاغل الأرضية التي لا أول لها ولا آخر .. هذه المشاغل التي تشغل عامة البشر وخاصتهم في شئون حياة كل منهم التي ما زالت في قبضة دنيانا حتى الآن !
فهل سيأتي يوم تتزايد فيه هذه الرحلات المكوكية إلى الفضاء في مواعيد وتنقلات منتظمة تطلع الأرض على آيات الكون العظيم، وتغير اتجاه البشرية تغييرًا جادًا يرينا جديدًا عما ألفناه وألفه آباؤنا من الانحصار في الكرة الأرضية والتي يلامسون فيها ازدياد الضيق ووطأة الكساد وجحيم الاضطرابات والثورات والحروب والويلات !
إن توالى السنين قد مهد وأعد عقل الآدميين للنمو المطرد من جيل إلى جيل، وبات الآدمي يستخدم عقله أغلب الأوقات ـ في قضاء وانتهاء وانتظار حاجاته ورغباته وأطماعه وخصوماته وعداواته، فنقص بهذا النمو ـ اقتداره على الاحتفاظ بالإيمان الفطري البسيط الذى عاش به وعليه من جيل إلى جيل .. ثم إذْ به يكاد أن يختفى، وأخذ مكانه أو حل محله لدى المجموع ــ صور الإيمان العقلية أو المأثورة أو التي حفظها كبار الأوائل ورددها عنهم المسالمون من البشر .. يتلوها الخلف عن السلف لتسكن نفسه ويمضى في حياته وطريقها ما مضى من أمثاله في زمنه .. قد يجيد الاحتجاج بالآيات والرجوع إلى الأصول والركون القولي على الأسانيد ، ولكن دون أن ينسى مطالبه ورغباته ومصالحه وآماله بل أطماعه ، ودون أن يغفل عن خصوماته وعداواته ، ثم إذا به رغم ما يردده ويتفاصح به ـ يضطرب اضطرابًا شديدًا لمجرد التفكير في متاعبه ومخاوفه وهمومه وشجونه .. لأن دنياه العارية من الإيمان الفطري البسيط ــ وإن زخرت تارة بالثقة والجرأة، إلاّ أنها تزخر تارات بالهواجس وأخطار المصائب وانتظار الكوارث والنكبات !
ويبدو أن المؤمنين الأول في قديم الزمان الذى نعرف بعضه الآن ـ كانت صلاتهم بالدنيا أضعف كثيرًا جدًّا من صلاتنا الشديدة الآن بها نحن وآبائنا .. وذلك لا مناص منه فيما يبدو نتيجة نمو العقول وانصرافنا أولاً وأخيرًا لدنيانا بعد أن صار الإيمان الفطري أثرًا أو قشرًا فقط .. قد نتبادله ونزيّن له المعابد ونفخم ونكرم له الكهان والأحبار والخدام والأتباع للملل وللنحل .. من قرون قد صار ذلك كله تدريجيًا مجرد طقوس .. قد يؤديها الناس ولكن بلا عمق إيمان أو إصرار عليه .. يحدث ذلك في المواسم المألوفة أو في الأوقات أو المواعيد أو الأعياد والمناسبات المقررة لها، صلاحًا أو اعتيادًا أو عرفًا .. بصورة أقرب إلى الاحتفال الاجتماعي الذى لا روح فيه ناهيك بالإيمان ! .. فمن عصور طويلة لم يعد لهذه المواسم إلاّ خيال الإيمان بالدين الذى تنتسب إليه هذه الجماعة أو تلك ، وهو خيال لا روح فيه لذلك الإيمان الفطري القديم الذى كان القدماء عامتهم وخاصتهم تحسه وتتهيبه بعمق .. ثم تحللت هيبته باطراد خلال القرون إلى يومنا هذا ! .. حدث ذلك الوهن نتيجة المداومة على اطراد استخدام البشر للعقل في مطالبهم وأشواقهم وأغراضهم ومخاوفهم، استغلالاً لا ينقطع في هذه الأغراض والمآرب دون أن يعنى أحد بخدمة وتنميـة العقل ذاته لأغراضه هو التي بها يكبر ويرقى ويستنير .. ولم تسع العلوم والمعارف الوضعية حتى يومنا للاستفادة بهذه الخطوة العظيمة .. فمازالت هذه العلوم والمعارف برغم قفزاتها المطردة التي تزداد مرونة واتساعًا ـــ مازالت مندسـة غارقـة مغمـورة فى الأغراض والمصالح والمخاوف والأحقاد التي لم نتخل جميعًا عنها في حياتنا حتى الآن !