رشاد العقل بين سلطان الذات وقبضة الأرض ونواميس الحياة (5)
من تراب الطريق (997)
رشاد العقل بين سلطان الذات وقبضة الأرض ونواميس الحياة (5)
نشر بجريدة المال لاثنين 14/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
وتزاحم الاحتراف بين البشر في أيامنا هذه على الأرض في آلاف الحرف بآلاف الطرق مع الكثرة الهائلة جدًّا في أهل الأرض ــ قد زاد في الاختناقات والمصاعب والإضرابات والبطالات والاضطرابات والثورات في كل جماعة.. وقد احتاجت البشرية فيما يبدو ـــ إلى متنفس للاحتراف خارج هذه الأرض يلطف مشاكلها الحالية التي استعصى حلها الآن في نظر معظم الناس.. هنالك قد يلقون السعة التي لم يعرفوها بل لم يتصوروها أو يحلموا بها ـــ ويلقون البراح الفسيح الذي لا يعرف منافسًا أو تزاحمًا أو اشتراكًا أو اشتباكًا.. وقد ينسون إلى غير رجعة ما كان عليه أهل الأرض في أزمنتهم المديدة الماضية من إذعان وضيق وجوع وصراع وقتال وإفناء في انفرادهم على هذه الأرض بغير معين أو نصير إلاّ نادرًا مع قصر الأعمار في أغلبية السكان لضعف التغذية وانتشار الأوبئة والمجاعات !!
* * *
حاضر البشر ــــ يغطى دائمًا نظرهم إلى قابلهم كأنهم لا يبالون به.. مع أنه هو الذي يعايش في توالى ساعات الآدمي وأيامه الآتية كحاضر في زمنه الذي يأتي فيه بلا نظر إلى
ما انقضى مما نسميه ماضيًا !.. وحاضرنا شخصي صرف.. كشأن الاطلاع على الصحيفة التي تمثل حاضرًا عند اطلاعنا عليها بغض النظر عن وقت إصدارها من المطبعة ثم تصير بعد الفراغ منها ماضيًا.. وكذلك انعقاد المحفل والمجلس والجلسة والحفلة والموكب وأمثالها..
هي أحداث متعاقبة تتوالى وتمضى تباعًا لكن تنتهي في نظرنا بختامها.. وذلك من باب العرف بانتهاء آخر حلقاتها في التعاقب.. والمؤلف الذي أنفق في وضع كتابه سنين حينما ينتهى من طبعه يقول عرفا إنه صدر في تاريخ طبعه . إذ العرف يقتضي تجاهل الزمن الطويل في العمل فيه ليبرز جدته للقراء.. فهم لا يعرفونه إلاّ من يوم نشره . فالحاضر لدى البشر مصباحه أعرافهم عند الآخرين أولاً وليس عرفه لدى صاحب العمل وحده.. ومثل هذا العرف حاصل في مقاييس الأرض والأمكنة والأزمان والأحجام والمساحات والأعماق والأشكال وأصنافها إيجابًا وسلبًا بلا نهاية .
وأنواع وأنماط وأشكال العرف هي تحديدات وتصورات ورؤيات يراها البشر بالملاحظة المتكررة أو بالاستنتاج الذي يبدو معقولاً للآدمي.. يتشكل ذلك تبعًا للنواحي التي فطن إليها من عالمه الخارجي ـ تدريجيًا خلال الأجيال ـ بشهادة الحواس واتصالهـا المحـدود بالقريب منها وتفاعلها مع ذلك العالم ( الخارجي) . ولم يحاول الآدمي ـــ حتى اليوم ـ أن يتصل داخله هو بما فيه من « أنا » وعواطف ومخاوف ـــ بالعالم الخارجي اتصالا معقولاً يراعى فيه التبادل والأخذ والعطاء على أساس من التعاون الخالي من الكبر وصلف الآدميين اللذين يظهران إلى اليوم بقبحهما مع القـدرة والقـوة ويختفيان مع الضعف والعجز اختفاء كليًا لا يعتد به أحد !
إن المجد البشرى الحالي ـ لدى أفراده ! ـــ زائل لا محالة زوال ماضيه!.. إذ لم يعرف بعد المجد البشرى المستقر العاقل الباقي ما بقى الكون.. لأننا لم ننجح بعد في الاتصال الواعي العاقل الوثيق بالكون العظيم مع الاعتياد المطرد الواعي على الأخذ والعطاء منا ومنه واعين حافظين منتفعين راضين غير أنانيين.. تتكرر أخطاؤنا وانعدام وعينا واستشراء أنانيتنا رغم ارتفاع أعمار الأفراد طولا وعرضًا وعمقًا عقليًا إلى حدود هائلة لم يتصور وجودها إنسان حتى في أخبار آبائنا الأول !
فقد اتسع اليوم فراغ المعرفة العميقة الصحيحة اتساعًا غير مسبوق.. لأن الآدميين أهملوا تمامًا الالتفات إلى داخلهم إلاّ النادر جدًّا منهم، وباتوا في زماننا لا يفكرون ولا يتعاملون حتى فيما بينهم وبين أنفسهم ـــ إلاّ مع خارجهم.. وهذا دائمًا وقتي سطحي متقلب
لا يثبت على حال.. لأنه لا يرى إلاّ ما تراه العين حولها واقعًا حاصلاً أو مقروءًا أو مسموعًا أو متطورًا في صورة أو إذاعة.. مصدرها المهم دائمًا خارج هذه الذات أو تلك.. لا يلتفت كل آدمي إلاّ إلى خارجه لكي يحس بوجود ذاته أي بوجوده هو حيًا.. هذا الالتفات يتزايد في القوة والاتساع بغير انقطاع منذ قرون عديدة جدًّا.. وهو دائمًا تعودٌ مكتسب من خارج الآدمي استمده أصلاً من خارجه وانتحله لنفسه لأمد من حياته إن أمكنه، أو لأمل من خارجه يرجو أن يتحقق يومًا ما لحياته.. فخارج كل آدمي يرى دنيا واسعة تجتذب حواسه وتشغلها وتلهب عواطفه وتحرك أطماعه وتستثير إقدامه وجرأته وتثير ثورته ويحس معها بلذة تنفيذ وممارسة سلطته !