رشاد العقل بين سلطان الذات وقبضة الأرض ونواميس الحياة (2)
من تراب الطريق (994)
رشاد العقل بين سلطان الذات وقبضة الأرض ونواميس الحياة (2)
نشر بجريدة المال الأربعاء 9/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يبدو أن أغلب الناس قد زهدوا إلى حد بعيد من السماع والقراءة والرؤية والترديد والتحليل والتعليق والتفسير والتركيب والتمجيد والإعادة والزيادة والنقل والجدل والمناقشة والمداولة والاجتماع.. زهد معظم الناس في أيامنا في الخير والشر معًا .. إذ لم يَعُدْ للحياة لدى معظمنا طعـم عميـق ناشـب طاغ لا يمل ولا يضيع .. اللهم إلاّ لدى القلة القليلة كما كانت الحال من قبل.
هل يفيق الناس من هذا السأم اليائس الذي فقد الهمة فقده لإيمانه وأمله بشيء كان في الماضي يعيش به ومن أجله؟! وهل يهتز الناس قبل النهاية ــ على جديد يلهب حماستهم الجادة التي أخمدتها هذه الأيام بهذه الألاعيب والأفاعيل والأضاليل ؟! .. فيأسنا الآن يبدو أشد خطرًا بكثير من مرات اليأس الماضية لأن المهلكات الهائلة للفتك والتخريب التي باتت الآن مدمرة مهلكة بغير أي تمييز ـــ قد بلغت حدودًا غير مسبوقة من الإهلاك ـــ دون ما علة حقيقية أو داع مفهوم، وصار من المتعذر إن لم يكن من المستحيل منعها أو تحاشى ما تجره على الأفراد والمجموع من ويلات !
وبقاء التمسك الشديد جدًّا بتقديس القرآن الكريم والحرص على وجوده في دار كل مسلم ـــ عربيا كان أو غير عربي ـــ وأحيانا كثيرة في جيبه أو في عربته أو مكان عمله ـــ يرجع فيما يبدو للوضوح الهائل في عقلانية القرآن التي لا مثيل لها في أي ملة أو ديانة، ولكن التقديس البشرى الديني للعقلانية ـــ لا يكفي حتى الآن لاقتلاع سلطان « الأنا » لدى البشر مسلمين أو غير مسلمين، ولا الحد من أنانية الآدمي في دنياه التي لا يتركها اختيارًا .. لأن أمل كل آدمي في التوبة إلى الله ـــ لا ينقطع إلى أن يفارق الحياة ! .. والتوبة عودة ماحية لما سبقها من ذنوب وآثام، لكنها عسيرة الصدق على الذي اعتاد الاعتزاز « بالأنا » والانحياز المستمر للأنانية . فلم تنجح الأديان للآن في إصلاح أتباعهـا وتخليصهم من سطوة الأنا أو غلوائها .. وقد قوّى سلطان « الأنا » إلى هذا الحد ـــ انحصار البشر منذ أن يولدوا إلى أن يذهبوا ــ
في قبضة هذه الأرض وشواغل أعبائهم ونصبهم فيها !.. فما الذي ينتظر الإنسان إن انطلق بإرادة الله عز وجل وإذنه إلى الفضاء الواسع الذي لا يحد والاتصال المتين القوى بالكون العظيم بما فيه من عوالم هائلة لم يحط الإنسان بها علمًا ؟!.. هل يغير ذلك واقع كل آدمي ويضعه في مكانه المعقول السليم فلا يتجاوز قط حماية روحه وتقدير « أناه » واحترام عقله، ويعيننا من ثم على مفارقة دوافعنا ومآربنا المغرضة أو الجشعة أو الفارغة أو الحمقاء التي شغلتنا عن جوهر ومعنى الحياة !
لا يكف البشر قط عن التحرك إلى أي جهة تدفعها نفس كل منا إليها، ويندر جدًّا أن يتوقف هذا أو ذاك ـــ رغم إحساسه بذلك الدفع ـــ ليتحقق ويتأكد إلى أين يتجـه . لأن السطحية برغم تقدمنا وتطورنـا لا تزال غالبة لدى أغلبنا مع انفراد نوعنا على الأرض وعدم وجود من نشعر أنه ينافسنا من الأحياء الأخرى عليها .. أما المنافسة بين البشر بعضهم وبعض فإنها مهما اشتدت وبلغت حد العراك والقتال والقتل ـــ فإنها لم تتجه قط إلى منافسة الجنس البشرى ذاته ومغالبته .. فما يحتاج إليه الجنس البشرى الآن بل منذ سنين ولا يعرف كيف يصل إليه ويحدده ويتسابق معه ـــ هو الجنس أو الأجناس الأخرى القادرة على المنافسة الجادة الخالية من كل غش ومكر وخداع !!
وقد أقمنا على كل ما معنا من الحركات والسكنات ــ لأننا دون أن ننتبه ــ اعتدنا كل
ما تصورنا وجوده في الكون .. اعتدنا جميع ما سميناه ظواهر الطبيعة ـ كالنور والظلمة والنهار والليل والشتاء والصيف والخصوبة والجدب واليقظة والنوم ومواعيد أكلنا وأشغالنا وأعمالنا وفرص الراحة والسياحة والرياضة والتسلية واللعب، وعرفنا مواسم المراهقة والبلوغ والزواج والشباب والرجولة وزمان الكهولة والشيخوخة، وبنينا على ذلك ما بنيناه بغير انتباه ــ وأحيانا بانتباه ــ من العلاقات والروابط .. كما خلقنا الأنانيات والخصومات والعداوات .. وهذه كلها ردود أفعال لا إرادية وإرادية بشرية على ما لا حَدّ له من العناصر والمركبات والطاقات والقوى العاملة الفعالة في هذه الأرض التي اتصل الإنسان ببعضها أو اتصل بعضها به.