رحلة الطائر !

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 8/8/2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

في 17 سبتمبر 1959، تقدمت إلى منطقة تجنيد الإسكندرية، يحدوني الأمل في أن أعود إلى مكتب أبى بشبين الكوم لأستأنف معه العمل بالمحاماة التي بدأت أولى خطواتها منذ حلف اليمين أمام المستشار محمود عبد اللطيف -يرحمه الله- في 19/8/1959.. ولأنه سبق أن أجريت في الأربعينيات عملية فتق إربي، واستجد آخر في الناحية المقابلة، ارتأى الدكتور الفاحص الأول بالقومسيون الطبي أني غير لائق للخدمة العسكرية.. ومكثت في انتظار تصديق رئيس القومسيون قرابة ثلاث ساعات طفق الأمل يداعبني فيها أن ألحق بديزل العصاري إلى طنطا، ومنها إلى شبين الكوم.. ولكن رئيس القومسيون وأذكر أنه كان يومها الدكتور كمال عطية رفض التصديق وأشر بأنني لائق، وعليه انتقلت في غمضة عين من القومسيون الطبي إلى معسكر الاستقبال بذات معسكرات مصطفى باشا التي كان فيها منطقة تجنيد الإسكندرية.

كنا دفعة من المؤهلات العليا.. التقانا يومها ضابط برتبة مقدم، دفعه إشفاقه علينا من صدمة الانتقال السريع من الحياة المدنية إلى الخدمة العسكرية الشاقة بأوامرها الصارمة، إلى أن يتباسط معنا ونحن جلوس أمامه على الأرض، ناصحاً حتى نتأقلم بلا آلام، بأن نترك شهاداتنا على الباب قبل دخول المعسكرات.. فحضورها النفسي سيجعل الاستجابة للأوامر العسكرية ومصدريها عملية عسيرة إذا ما ظلت الأمور محكومة في داخلنا بفوارق الشهادات !

وسرعان ما أدركت حكمة نصيحته.. فقد تسلمنا بعد دقائق رقيب لا زلت أذكر أن اسمه عزازي.. جمعنا حوله في صورة مربع ناقص ضلع، وأمام أكوام من المهمات التي كان علينا أن نتسلمها لنخلع الزى المدني ونرتديها.. فجعل يسلمنا صنفًا صنفًا وينادى: هل كل عسكري معه (4) مناديل، فنجيب «أيوه».. فينادي: هل مع أحد ثلاثـة، فنجيب «لا».. فيكرر: هل مع أحد خمسة، فنجيب «لا».. فينادي: «تاوى».. أي ضع المناديل بعد التأكد من عددها في «المخلاة» التي تسلم كلٌّ منا واحدة له منها.. ظللنا على هذه الحال نحو ساعتين حتى فرغنا من الاستلام وملء «المخلاة» بالملابس العسكرية الجديدة التي كان لابد من تقييفها لتناسب مقاس وطول كل منا.. كان الغروب قد زحف حينما استطعت أن أستأذن من الرقيب عزازي ليسمح لي بالمبيت بالخارج لصباح اليوم التالي الذي كان علينا أن نسافر فيه بالقطار لترحيلنا إلى منطقة تجنيد القاهرة.

بدا لي يومها أنني قد وقعت من شاهق.. كنت قد خطبت منذ 30 أكتوبر 1958 أثناء الليسانس، تداعبني آمال عريضة في سرعة التهيؤ لإتمام الزواج بعد أن جاءت الأيام الأولى مبشرة في المحاماة إلى جوار أبي الذي كان -رحمه الله- واحدًا من عظمائها.. تخرج عام 1925 في ذات كلية الحقوق جامعة القاهرة التي تخرجت فيها إبان أن كان اسمها مدرسة الحقوق الملكية.. استقبلني -رحمه الله- واستقبلتني المحاماة بترحاب، واقترب الأمل في عقد القران.. ثم إذ بي فجأة جندي مستجد، يرتدى «أوفرأول» مهرول يحتاج إلى تقييف كبير بلغة العسكر، وحذاء بيادة ثقيل.. أقف في طابور صباح 18/9/1959 أمام الرقيب عزازي ليقودنا من معسكرات مصطفى باشا إلى محطة سيدي جابر يحمل كل منا «مخلاته» سيرًا على الأقدام التي جعلت تدق على الأسفلت، تطالعنا العيون الفضولة من على المقاهي والأفريز، وأخرى تطل علينا من شرفات ونوافذ المنازل المصطفة على جانبي الشارع.. على محطة سيدي جابر، جلس كل منا على «مخلاته».. ومكثنا نحو ساعة ونصف قبل أن نركب درجة ثالثة في القطار القشاش الذي يقف في جميع المراكز، حتى وصلنا إلى محطة باب الحديد نحو الخامسة، ومنها إلى قطار آخر من محطة كوبري الليمون.. أمضي مع رفاق الجندية رافعين على الأكتاف «مخلاة» كل منا، مارين على الأقدام في ذات الميدان الذي سبق أن شاهد عياقة الشباب التي كنا نتخايل بها أيام الدراسة.. ولكن في محطة النزول بالزيتون كانت المفاجأة الأكبر.. لم يجد الرقيب عزازي اللواري التي كان مفروضاً أن تقلنا من المحطة إلى منطقة التجنيد التي تبعد عدة كيلومترات.. لم يكن هناك بد من أن نقطعها مشيا في طابور حاملين مهماتنا ننوء بوزنها وبثقل الأحذية البيادة التي لم نتعودها.. حتى استقر بنا المقام بمعسكر استقبال القاهرة بعد أن سلمنا الرقيب عزازي إلى رقيب آخر، لتبدأ رحلة جديدة استمرت في القوات المسلحة سبعة عشر عاماً حتى تركتها آخر 1976 بناءً على طلبي لأعود إلى المحاماة التي عشقتها وعشقتني وأمضيت فيها عمري!

لم تكن الرحلة هيّنة المسار.. بدأتها في بطارية تدريب المدفعية في ألماظة، ومنها بعد أيام إلى اتحاد المدفعية الرياضي، لأمارس فيه التنس والسباحة.. وأكتشف أن صرامة الجندية والأقدمية لا تفارق العسكريين أينما كانوا.. الحاكمدار لأي فريق هو الحاكم الآمر الإله.. نبدأ يومنا كل صباح بالكنس والرش حول حمام السباحة الذي كنا نتدرب به في عز الشتاء، ونخوضه بعد تفريغه في نهاية الأسبوع لتنظيف أرضياته وجوانبه بالفرشاة.. لا زلت أذكر مداعباتنا وزميل الدفعة بحقوق القاهرة وائل عباس فهمي السفير بالجامعة العربية فيما بعد.. وكيف كان الحاكمدار الباشجاويش عبد الحفيظ يناديه «واكل» بلهجة الصعيد.. كانت أيام.. جرت بأقدار لم تكن في الحسبان.. من الجندية بعد عام، إلى ثمانية أشهر بالغة المشقة في دفعة الجامعيين بالكلية الحربية، ومنها إلى الكتيبة الثانية المشاة باللواء السابع بالعامرية، ليبدأ الطائر رحلة في القضاء العسكري استمرت ستة عشر عاماً مليئة بالأحداث والذكريات قبل أن يعود الطائر إلى عشه وينطوي في معشوقته المحاماة !

زر الذهاب إلى الأعلى