حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٣ لسنة ١٠ دستورية

حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٣ لسنة ١٠ دستورية
تاريخ النشر : ١٤ – ٠١ – ١٩٩٣

منطوق الحكم : عدم دستورية

مضمون الحكم : حكمت المحكمة بعدم دستورية المادة الثالثة من القانون رقم ٥٧ لسنة ١٩٧٠ وذلك فيما نصت عليه “ويعمل به من تاريخ العمل بالقانون رقم ٧٧ لسنة ١٩٦٢ المشار إليه”.

الحكم

برياسة عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة وحضور محمد ابراهيم أبو العينين ومحمد ولى الدين جلال وفاروق عبد الرحيم غنيم وسامى فرج يوسف وعبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين أعضاء ومحمد خيرى طه عبد المطلب المفوض ورأفت محمد عبد الواحد أمين السر .

– – – ١ – – –
لكل جزاء جنائى أثر مباشر يرتد إلى طبيعته و يتمثل فى حرمان الشخص من حقه فى الحياة أو من حريته أو ملكه، و لقد كان هذا الجزاء عبر أطوار قاتمة فى التاريخ أداة طيعة للقهر و الطغيان ، محققا للسلطة المستبدة أطماعها، و مبتعدا بالعقوبة عن أغراضها الإجتماعية ، و كان منطقيا و ضروريا أن تعمل الدول المتمدينة على أن تقيم تشريعاتها الجزائية وفق أسس ثابتة تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة فى جوانبها الموضوعية و الإجرائية ، لضمان ألا تكون العقوبة أداة قامعة للحرية عاصفة بها بالمخالفة للقيم التى تؤمن بها الجماعة فى تفاعلها مع الأمم المتحضرة و اتصالها بها، و كان لازما – فى مجال دعم هذا الاتجاه و تثبيته – أن تقرر الدساتير المعاصرة القيود التى ارتأتها على سلطان المشرع فى مجال التجريم تعبيرا عن ايمانها بأن حقوق الانسان و حرياته لا يجوز التضحية بها فى غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها ، و اعترافا منها بأن الحرية فى أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة ، و أن الحقائق المريرة التى عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها، تفرض نظاما متكاملا يكفل للجماعة مصالحها الحيوية، و يصون – فى اطار أهدافه – حقوق الفرد و حرياته الأساسية بما يحول دون إساءة استخدام العقوبة تشويها لأغراضها. و قد تحقق ذلك بوجه خاص من خلال ضوابط صارمة ، و مقاييس أكثر إحكاما لتحديد ماهية الأفعال المنهى عن ارتكابها، بما يزيل غموضها، و على نحو يجرد محكمة الموضوع من السلطة التقديرية التى تقرر بها قيام جريمة أو فرض عقوبة بغير نص ، كى تظل المصلحة الإجتماعية – فى مدارجها العليا – قيدا على السلطة التشريعية تحريا للشرعية فى حقيقة محتواها، و استشراقا للعدالة فى اعماق منابتها .

– – – ٢ – – –
عمد الدستور – فى اتجاهه إلى ترسم النظم المعاصرة و متابعة خطاها، و التقيد بمناهجها التقدمية – إلى النص فى المادة ٦٦ من على أنه لا جريمة و لا عقوبة إلا بناء على قانون، و لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذى ينص عليها الدستور ، دالاً بذلك على أن لكل جريمة ركنا ماديا لا قوام لها بغيره يتمثل أساسا فى فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابى ، مفصحا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائى ابتداء فى زواجره و نواهيه هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابيا كان هذا الفعل أم سلبيا ، ذلك أن العلائق التى ينظمها هذا القانون فى مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها ، فى علاماتها الخارجية، و مظاهرها الواقعية، و خصائصها المادية، إذ هى مناط التأثيم و علته، و هى التى يتصور إثباتها و نفيها، و هى التى يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، و هى التى تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها و تقدير العقوبة المناسبة لها، بل إنه فى مجال تقدير توافر القصد الجنائى، فإن محكمة الموضوع لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الإتهام التى قام الدليل عليها قاطعاً واضحاً، و لكنها تجيل بصرها فيها منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجانى حقيقة من وراء إرتكابها. و من ثم تعكس هذه العناصر تعبيراً خارجياً و مادياً عن إرادة واعية. و لا يتصور بالتالى وفقاً لأحكام الدستور أن توجد جريمة فى غيبة ركنها المادى، و لا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم و النتائج التى أحدثها بعيداً عن حقيقة هذا الفعل و محتواه. و لازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية – و ليس النوايا التى يضمرها الإنسان فى أعمال ذاته – تعتبر واقعة فى منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكاً خارجياً مؤاخذاً عليه قانوناً. فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، و تم التعبير عنها خارجياً فى صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة.

– – – ٣ – – –
الأصل وفقاً لنص المادة ٦٦ من الدستور هو أن يكون لكل جريمة عقوبة محددة ينص القانون عليها فى صلبه، أو تتقرر – على الأقل – وفقاً للحدود التى يبينها. كذلك فإن من القواعد المبدئية التى يتطلبها الدستور فى القوانين الجزائية، أن تكون درجة اليقين التى تنتظم أحكامها فى أعلى مستوياتها، و أظهر فى هذه القوانين منها فى أية تشريعات أخرى، ذلك أن القوانين الجزائية تفرض على الحرية الشخصية أخطر القيود و أبلغها أثراً، و يتعين بالتالى – ضماناً لهذه الحرية – أن تكون الأفعال التى تؤثمها هذه القوانين محددة بصورة قاطعة بما يحول دون إلتباسها بغيرها، و بمراعاة أن تكون دوماً جلية واضحة فى بيان الحدود الضيقة لنواهيها، ذلك أن التجهيل بها أو إنبهامها فى بعض جوانبها لا يجعل المخاطبين بها على بينة من حقيقة الأفعال التى يتعين عليهم تجنبها. كذلك فإن غموض مضمون النص العقابى مؤداه أن يحال بين محكمة الموضوع و بين إعمال قواعد منضبطة تعين لكل جريمة أركانها و تقرر عقوبتها بما لا خفاء فيه. و هى قواعد لا ترخص فيها و تمثل إطاراً لعملها لا يجوز تجاوزه، ذلك أن الغاية التى يتوخاها الدستور هى أن يوفر لكل مواطن الفرص الكاملة لمباشرة حرياته فى إطار من الضوابط التى قيدها بها. و لازم ذلك أن تكون القيود على الحرية التى تفرضها القوانين الجزائية، محددة بصورة يقينية لأنها تدعو المخاطبين بها إلى الأمتثال لها لكى يدفعوا عن حقهم فى الحياة و كذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التى تعكسها العقوبة. و لقد كان غموض القوانين الجزائية مرتبطاً من الناحية التاريخية بإساءة إستخدام السلطة، و كان أمراً مقضياً أن يركن المشرع إلى مناهج جديدة فى الصياغة لا تنزلق إلى تلك التعبيرات المرنة أو الغامضة أو المتميعة المحملة بأكثر من معنى و التى تنداح معها دائرة التجريم بما يوقع محكمة الموضوع فى محاذير واضحة قد تنتهى بها – فى مجال تطبيقها للنصوص العقابية – إلى إبتداع جرائم لا يكون المشرع قد قصد حقيقة إلى إنشائها، و إلى مجاوزة الحدود التى إعتبرها الدستور مجالاً حيوياً لمباشرة الحقوق و الحريات التى كفلها، و هو ما يخل فى النهاية بالضوابط الجوهرية التى تقوم عليها المحاكمة المنصفة وفقاً لنص المادة ٦٧ من الدستور.

– – – ٤ – – –
خاصية الوضوح و اليقين فى القوانين الجزائية، غايتها ضمان الحرية الفردية فى مواجهة التحكم، إنطلاقاً من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، و بوطأة القيود التى تنال من الحرية الشخصية، لضمان أن تباشر كل دولة – فى مجال فرض العقوبة صوناً للنظام الإجتماعى – السلطة المخولة لها بمراعاة الأغراض النهائية للقوانين العقابية التى ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفاً مقصوداً لذاته. متى كان ذلك، فإن إنتفاء الغموض فى هذه القوانين يقع فى نطاق مجموعة القيم التى تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية التى لا يجوز النزول عنها أو الإنتقاص منها.

– – – ٥ – – –
جرى قضاء هذه المحكمة على أن القواعد المبدئية التى تقوم عليها المحكمة المنصفة و إن كانت إجرائية فى الأصل – إلا أن تطبيقها فى مجال الدعوى الجنائية – و على إمتداد حلقاتها – يؤثر بالضرورة فى محصلتها النهائية، و يندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية توجبها الفطرة و تفرضها حقائق الأشياء. متى كان ذلك، و كان إفتراض البراءة يمثل أصلاً ثابتاً يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، و ليس بنوع العقوبة المقررة لها، و كان هذا الأصل يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبهاً فيه أم كان متهماً بإعتباره قاعدة أساسية فى النظام الإتهامى أقرتها الشرائع جميعها – لا لتكفل بموجبها الحماية للمذنبين – و إنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن كل فرد إذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة محل الإتهام الجنائى. متى كان ذلك، و كان الإتهام الجنائى – فى ذاته – لا يزحزح أصل البراءة، بل يلازم الفرد دوماً، و لا يزايله سواء فى مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثناءها و على إمتداد حلقاتها، و أياً كان الزمن الذى تستغرقه إجراءاتها – فقد غدا دحض أصل البراءة ممتنعاً بغير الأدلة التى تبلغ قوتها الإقناعية – فى مجال ثبوت التهمة – مبلغ الجزم و اليقين، بما لا يدع مجالاً معقولاً لشبهة إنتفائها، و بشرط أن تكون دلالتها قد إستقرت حقيقتها بحكم إستنفد طرق الطعن فيه، و صار باتاً.

– – – ٦ – – –
طبقاً للمادة ٥ من المرسوم بقانون رقم ٩٨ لسنة ١٩٤٥ بشأن المتشردين و المشتبه فيهم، يعتبر مشتبهاً فيه كل من تزيد سنه على ثمانى عشرة سنة إذا إشتهر عنه أنه إعتاد إرتكاب بعض الجرائم أو الأفعال التى حددتها هذه المادة حصراً، و كان الإشتباه بهذا المعنى – و طبقاً لما جرى عليه القضاء فى مجال تطبيقه – ليس وصفاً دائماً أو مؤبداً، و لا يعتبر فى مبناه مرتبطاً بفعل يحس به فى الخارج، و لا هو واقعة مادية تمثل سلوكاً محدداً أتاه الجانى، و دفعها إلى الوجود، لتقام عليه الدعوى الجنائية من أجل إرتكابها، و إنما قوامه حالة خطرة كامنة فيه مرجعها إلى شيوع أمره بين الناس بإعتباره من الذين إعتادوا مقارفة جرائم و أفعال مما عينتها المادة ٥ المطعون عليها، و هى حالة رتب المشرع على تحققها بالنسبة إليه محاسبته و عقابه، و أجاز التدليل عليها بالأقوال أو السوابق أو التقارير الأمنية بعد أن قدر أن جميعها تعتبر كاشفة عن الصلة بين حاضره و ماضيه، و قاطعة فى توكيد خطورته. متى كان ذلك، و كان هذا الإتجاه التشريعى يقوم على إفتراض لا محل له، و يناهض نصوص الدستور التى تعتد بالأفعال وحدها بإعتبارها مناط التأثيم و علته، و لأنها دون غيرها هى التى يجوز إثباتها و نفيها، و هى التى يتصور أن تكون محل تقدير محكمة الموضوع، و أن تكون عقيدتها بالبناء عليها، و كان لا شبهة فى أن الأقوال التى تتردد فى شأن شخص معين، و كذلك السوابق أو التقارير أياً كان وزنها، لا تنزل منزلة الأفعال التى يجوز إسنادها إلى مقارفها، و لا هى قاطعة فى إتجاه إرادته و إنصرافه إلى إرتكابها، و قد تنقصها الدقة أو تفتقر إلى الموضوعية، و كان من المقرر أنه لا يجوز – فى أية حال – أن تكون مصائر الناس معلقة على غير أفعالهم، أما أقوال الآخرين فى حقهم فلا يملكون لها دفعاً، و لا سبيل لهم عليها، لتعلقها بما شاع عنهم، و قد تحيط بهم زوراً و بهتاناً، و كان الإشتهار بالمعنى الذى يقصد إليه النص المطعون فيه يعتبر – فى ذاته – مكوناً لجريمة لا يعاصرها فعل أو أفعال بعينها، و هو فوق هذا يجهل بماهية الأفعال التى يتعين على المخاطبين بالقوانين الجزائية توقيها و تجنبها، و التى يوقعهم إرتكابها فى حومة المخالفة لنواهيها، فإن الإشتهار – وفقاً لما جرى به النص المطعون فيه – يكون بالتالى مفتقراً إلى خاصية اليقين الى لا يجوز أن تتحلل القوانين الجزائية منها، و منصرفاً كذلك إلى حالة خطرة تستمد عناصرها من السوابق أو الأقوال أو غيرها، و جميعها لا ترقى إلى مرتبة الفعل و لا يقوم هو بها، و من ثم يقصر الإشتهار عن أن يكون من الأفعال التى يجوز تجريمها وفقاً لضوابط الدستور و ضماناته التى يؤدى الإخلال بها إلى إقتحام الحرية الشخصية فى مجالاتها الحيوية، و إلى الإنتقاص من الحقوق التى كفلها الدستور فى مواجهة التسلط أو التحامل. كذلك فإنه مما يناقض إدانة الشخص على أساس الإشتهار بالمعنى السابق، إفتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه إلى أن تخلص المحكمة إلى إدانته بصفة باتة بعد إقتناعها بالأدلة الكافية على ثبوتها بما لا يدع مجالاً لشبهة إنتفائها، و هى أدلة لا تدور إلا على الأفعال التى نسبتها النيابة العامة إليه بإعتبارها ركناً مادياً فى الجريمة. و لا كذلك الإشتهار، إذ لا يؤول إلى فعل محدد يكون مادة الجريمة أو موضوعها، و إنما يقوم على مجرد حالة لا تنشئها أو تتصل بها أفعال مادية قام الدليل عليها، يعبر بها الجانى عن إرادته الواعية الجازمة، متوسلاً بها إلى بلوغ النتيجة الإجرامية التى يبتغيها.

– – – ٧ – – –
الصورة الأخرى للإشتباه، و التى تقوم فى جوهرها على أحكام إدانة سابقة، فصلتها المادة ٥ المطعون عليها، و ذلك فيما قررته من أن كل من تزيد سنه على ثمانى عشرة سنة، يعد مشتبهاً فيه إذا كان قد حكم عليه أكثر من مرة فى إحدى الجرائم التى عينتها هذه المادة، بما مؤاده أنه حتى فى الأحوال التى يكون فيها الإشتباه مستنداً – فى مصدره – إلى تعدد الأحكام الصادرة فى الجرائم التى حددها القانون، فإن الإشتباه يظل جريمة بلا سلوك، إذ ليس شرطاً لقيامها أن يكون قد عاصرها أو إتصل بها فعل محدد، إيجابياً كان هذا الفعل أم سلبياً. و من ثم يكون مرد الإشتباه فى هذه الصورة إلى الخطورة الناجمة عن جرائم سابقة إرتكبها شخص معين، و ليغدو الإشتباه صفة ينشئها المشرع فى نفس قابلة لها بغية التحوط لأمن الجماعة و صون نظامها. و لا مرية فى أن إعتبار الشخص مشتبهاً فيه بناء على جرائمه السابقة إنما يناهض السياسة الجنائية القويمة، إذ هو أدعى إلى إنتباذه الجماعة التى يعيش فيها، و شقه عصا الطاعة عليها. و آية ذلك أن الخطورة الناجمة عن جرائمه السابقة، و التى يراد التحوط منها صوناً لمصالح الجماعة، لا تزيد عن كونها من العوامل التى تومئ إلى إحتمال إرتكابه فى المستقبل لجريمة غير معينة، و هى بذلك ترشح لمقارفتها، و لا تقطع بالإنزلاق فيها، و لا يجوز بالتالى أن يتعلق التجريم بها، إذ ليس ثمة علاقة حتمية بين إنغماس الشخص فى جرائم سابقة، و بين ترديه فى حمأتها و العودة إليها مرة أخرى. كذلك فإنه مما يناقض إفتراض البراءة أن يدان الشخص – لا عن جريمة بذاتها أتاها و تتحدد عقوبتها بالنظر إلى ماهيتها و ظروفها – بل بناء على محض إحتمال عودته إلى الإجرام، بما مؤداه أن الخطورة الإجرامية التى يعتبر الشخص بموجبها مشتبهاً فيه، قوامها عناصر مستمدة من ماضيه، و دليلها جرائمه السابقة، إذ تعتبر كاشفة عن خطورته هذه و قاطعة بها. و من ثم تكون سوابقه دامغة لحاضره، و ملطخة لمستقبله، بل و محددة لمجراه، و مدخلاً إلى إدانته عن جريمة قوامها الحالة الخطرة فى ذاتها، و هى حالة تنشئها الجرائم السابقة التى إرتكبها، و التى تم تنفيذ عقوباتها كاملة بالنسبة إليه. و هى بعد جريمة نص القانون على أن تتخذ فى شأنها التدابير المنصوص عليها فى مادته السادسة، و جميعها تدابير سالبة للحرية لها وطأة العقوبة و خصائصها، و قد إعتبرتها مادته العاشرة مماثلة لعقوبة الحبس فى تطبيق أحكام قانون العقوبات أو أى قانون آخر. هذا بالإضافة إلى أن توقيعها فى ذاته ينطوى على معاقبة الشخص أكثر من مرة عن فعل واحد، فقد حوكم عن جرائمه السابقة جميعها، و تم إستيفاء عقوبة كل منها، و ليس ثمة جريمة أخرى قارفها – قوامها فعل أو إمتناع – حتى تقام الدعوى الجنائية عنها، و إنما تحركها حالته الخطرة التى إفترض المشرع إرتكازها على سوابقه، و رتبها عليها. و لا ينال مما تقدم، قالة أن مواجهة النزعة الإجرامية الكامنة فيمن تتعدد سوابقه و كبحها، لازمها إعتباره مشتبهاً فيه توقياً لخطورته، ذلك أن محكمة الموضوع يكفيها أن تقدر بمناسبة الجريمة الأخيرة التى إرتكبها الجزاء الملائم لها مراعية فى ذلك ماضيه الإجرامى.

– – – ٨ – – –
مبدأ عدم جواز معاقبة الشخص مرتين عن فعل واحد، من المبادئ التى رددتها النظم القانونية على إختلافها، و يعتبر جزءاً من الحقوق الأساسية التى تضمنها الإتفاقيات الدولية لكل إنسان، و يخل إهداره بالحرية الشخصية التى يعتبر صونها من العدوان ضمانة جوهرية لأدمية الفرد و لحقه فى الحياة، ذلك أن الجريمة الواحدة لا تزر وزرين. و بإستيفاء من إرتكابها للعقوبة المقدرة لها – و هى عقوبة لا يفرضها المشرع جزافاً، و إنما يفرد لكل جريمة العقوبة التى يرتئيها مناسبة لها – فإن الحق فى القصاص يكون قد بلغ غاية الأمر فيه. و قد جرى قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن خضوع الدولة للقانون محدد على ضوء مفهوم ديمقراطى، مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التى يعتبر التسليم بها فى الدول الديمقراطية مفترضاً أولياً لقيام الدولة القانونية، و ضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان و كرامته و شخصيته المتكاملة، و يندرج تحتها طائفة من الحقوق تعتبر وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التى كلفها الدستور فى مادته الحادية و الأربعين، و إعتبرها من الحقوق الطبيعية التى لا تمس، و من بينها ألا تكون العقوبة الجنائية التى توقعها الدولة بتشريعاتها مهينة فى ذاتها أو ممعنة فى قسوتها، أو منطوية على تقييد الحرية الشخصية بغير إنتهاج الوسائل القانونية السليمة، أو متضمنة معاقبة الشخص أكثر من مرة عن فعل واحد.

– – – ٩ – – –
متى كان الإشبتاه فى صورتيه المشار إليهما بنص المادة ٥ المطعون عليها، لا يعتبر فعلاً إتخذ مظهراً خارجياً ملموساً، و لا هو يقيد الحرية الشخصية بمراعاة الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكام الدستور فى جوانبها الموضوعية و الإجرائية، أو يلتزم الضوابط التى أرسلتها هذه المحكمة فى شأن المحاكمة المنصفة، و من بينها إفتراض البراءة كحقيقة مستعصية على الجدل تمليها الشرعية الجنائية، و كان الإشتباه فى الصورة التى يقوم فيها على أحكام الإدانة السابقة يتمحض عن معاقبة الشخص مرتين عن فعل واحد، فإن المادة ٥ المشار إليها تكون مخالفة لأحكام المواد ٤١،٦٦،٦٧ من الدستور. و لازم ذلك بطلانها، و سقوط المواد ٦،١٣،١٥ من ذلك المرسوم بقانون المرتبطة بها بإعتبار أنها مترتبة عليها، و لا قوام لها بدونها، و لا يتصور إعمالها فى غيبتها، و ما كان المشرع ليقرها بمعزل عنها.

– – – ١٠ – – –
النصوص التى ينتظمها العمل التشريعى لا تعتبر – من زاوية العيوب الموضوعية – مهدرة بتمامها إلا إحدى حالتين:
أولاهما : إذا كان فصل النصوص التى أبطلتها المحكمة عما سواها متعذراً، و كان ملحوظاً عند إقرار المشرع للنصوص جميعها ما بينها من صلة حتمية تجعل ترابطها معاً، و إتصال أجزائها ببعض، حقيقة قانونية لا مراء فيها.
ثانيتهما : إذا كان متعذراً بعد إبطال المحكمة للنصوص المخالفة للدستور، أن تكفل النصوص المتبقية الوفاء بمقاصد التشريع، و غاياته.
– – – المحكمة – – –
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
وحيث إن الوقائع – على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل في أن النيابة العامة كانت قد أقامت الدعوى الجنائية في القضية رقم ١ لسنة ١٩٨٧ جنح اشتباه طامية ضد المدعي بوصف أنه عد مشتبهاً فيه إذ سبق الحكم عليه أكثر من مرة في جرائم الاتجار بالمواد المخدرة، كما اشتهر عنه أنه اعتاد جرائم الاعتداء على النفس وطلبت النيابة معاقبته بالمواد ٥ / ٧, ٦ , ٨، ٩، ١٦ من المرسوم بقانون رقم ٩٨ لسنة ١٩٤٥ بشأن المشردين والمشتبه فيهم. وأثناء نظر الدعوى أمام محكمة جنح اشتباه طامية، دفع المدعي بعدم دستورية مادتيه الخامسة والسادسة. وإذ قدرت المحكمة المذكورة جدية هذا الدفع فقد صرحت للمدعي بجلسة ٦ من ديسمبر سنة ١٩٨٧ بإقامة دعواه الدستورية، فأقام الدعوى الماثلة. وبجلسة ١٠ من يناير سنة ١٩٨٨ قررت محكمة الموضوع وقف الدعوى الجنائية لحين الفصل في الطعن بعدم الدستورية.
وحيث إن المادة ٥ من المرسوم بقانون رقم ٩٨ لسنة ١٩٤٥ بشأن المتشردين والمشتبه فيهم – تنص على أن “يعد مشتبهاً فيه كل شخص تزيد سنة على ثماني عشرة سنة حكم عليه أكثر من مرة في إحدى الجرائم الآتية أو اشتهر عنه – لأسباب مقبولة – أنه اعتاد ارتكاب بعض الجرائم أو الأفعال الآتية:
١ – الاعتداء على النفس أو المال أو التهديد بذلك.
٢ – الوساطة في إعادة الأشخاص المخطوفين أو الأشياء المسروقة أو المختلسة.
٣ – تعطيل وسائل المواصلات أو المخابرات ذات المنفعة العامة.
٤ – الاتجار بالمواد السامة أو المخدرات أو تقديمها للغير.
٥ – تزييف النقود أو تزوير أوراق النقد الحكومية أو أوراق البنكنوت الجائز تداولها قانوناً في البلاد أو تقليد أو ترويج شيء مما ذكر.
٦ – الجرائم المنصوص عليها في القانون رقم ١٠ لسنة ١٩٦١ في شأن مكافحة الدعارة.
٧ – جرائم هروب المحبوسين وإخفاء الجناة، المنصوص عليها في الباب الثامن من الكتاب الثاني من قانون العقوبات.
٨ – جرائم الاتجار في الأسلحة أو الذخائر.
٩ – إعداد الغير لارتكاب الجرائم أو تدريبهم على ارتكابها ولو لم تقم جريمة نتيجة لهذا الإعداد أو التدريب.
١٠ – إيواء المشتبه فيهم وفقاً لأحكام هذا القانون بقصد تهديد الغير أو فرض السيطرة عليه.
كما تنص المادة ٦ من ذات المرسوم بقانون على ما يأتي:
“يعاقب المشتبه فيه بأحد التدابير الآتية:
١ – تحديد الإقامة في مكان معين.
٢ – الوضع تحت مراقبة الشرطة.
٣ – الإيداع في إحدى مؤسسات العمل التي تحدد بقرار من وزير الداخلية، ويكون التدبير لمدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على ثلاث سنوات، وفي حالة العود أو ضبط المشتبه فيه حاملاً أسلحة أو آلات أو أدوات أخرى من شأنها إحداث جروح أو تسهيل ارتكاب الجرائم، تكون العقوبة الحبس والحكم بأحد التدابير السابقة لمدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنوات.
٤ – الإبعاد للأجنبي.
وحيث إن المدعي ينعي على المادتين ٥،٦ السالف بيانهما، مخالفتهما لنص المادتين ٦٦ و٦٧ من الدستور من عدة أوجه حاصلها أن الاشتباه ليس إلا حالة غير ظاهرة للحس أو العيان، كما أن الاشتهار يؤسس عادة على تقارير أجهزة الأمن، وكلاهما مرد الأمر فيه إلى حالة تقوم بالشخص منفصلة عن أية أفعال يكون قد أتاها. هذا بالإضافة إلى أن الاشتباه إنما يبعث إلى الحياة نظاماً قانونياً اختفى منذ أكثر من ثلاثين عاماً من القانون المقارن، ومؤداه معاقبة الشخص عن الفعل الواحد أكثر من مرة، وعن حالة قد تتوافر فيه قبل العمل بالنصوص التشريعية المطعون عليها.
وحيث إنه من المقرر أن لكل جزاء جنائي أثراً مباشراً يرتد إلى طبيعته، ويتمثل في حرمان الشخص من حقه في الحياة أو من حريته أو ملكه. ولقد كان هذا الجزاء عبر أطوار قائمة في التاريخ أداة طيعة للقهر والطغيان، محققاً للسلطة المستبدة أطماعها، ومبتعداً بالعقوبة عن أغراضها الاجتماعية. وكان منطقياً وضرورياً أن تعمل الدول المتمدينة على أن تقيم تشريعاتها الجزائية وفق أسس ثابتة تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة في جوانبها الموضوعية والإجرائية، لضمان ألا تكون العقوبة أداة قامعة للحرية عاصفة بها بالمخالفة للقيم التي تؤمن بها الجماعة في تفاعلها مع الأمم المتحضرة واتصالها بها. وكان لازماً – في مجال دعم هذا الاتجاه وتثبيته – أن تقرر الدساتير المعاصرة القيود التي ارتأتها على سلطان المشرع في مجال التجريم تعبيراً عن إيمانها بأن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، واعترافاً منها بأن الحرية في أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة، وأن الحقائق المريرة التي عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها، تفرض نظاماً متكاملاً يكفل للجماعة مصالحها الحيوية، ويصون – في إطار أهدافه – حقوق الفرد وحرياته الأساسية بما يحول دون إساءة استخدام العقوبة تشويها لأغراضها. وقد تحقق ذلك بوجه خاص من خلال ضوابط صارمة، ومقاييس أكثر إحكاماً لتحديد ماهية الأفعال المنهي عن ارتكابها، بما يزيل غموضها، وعلى نحو يجرد المحكمة من السلطة التقديرية التي تقرر بها قيام جريمة أو فرض عقوبة بغير نص، كي تظل المصلحة الاجتماعية – في مدارجها العليا – قيداً على السلطة التشريعية تحرياً للشرعية في أبعادها الكاملة، واستشرافاً للعدالة في أعماق منابتها.
وحيث إن الدستور – في اتجاهه إلى ترسم النظم المعاصرة ومتابعة خطاها، والتقيد بمناهجها التقدمية – نص في المادة ٦٦ منه على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذي ينص عليها، وكان الدستور قد دل بهذه المادة على أن لكل جريمة ركناً مادياً لا قوام لها بغيره يتمثل أساساً في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، مفصحاً بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداء في زواجره ونواهيه هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه، إيجابياً كان هذا الفعل أم سلبياً، ذلك أن العلائق التي ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه محورها الأفعال ذاتها، في علاماتها الخارجية، ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية، إذ هي مناط التأثيم وعلته، وهي التي يتصور إثباتها ونفيها، وهي التي يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهي التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها. بل إنه في مجال تقدير توافر القصد الجنائي، فإن المحكمة لا تعزل نفسها عن الواقعة محل الاتهام التي قام الدليل عليها قاطعاً واضحاً، ولكنها تجيل بصرها فيها منقبة من خلال عناصرها عما قصد إليه الجاني حقيقة من وراء ارتكابها. ومن ثم تعكس هذه العناصر تعبيراً خارجياً ومادياً عن إرادة واعية.
ولا يتصور بالتالي وفقاً لأحكام الدستور أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي، ولا إقامة الدليل على توافر علاقة السببية بين مادية الفعل المؤثم والنتائج التي أحدثها بعيداً عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه. ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية – وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته – تعبير واقعة في منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكاً خارجياً مؤاخذاً عليه قانوناً، فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجياً في صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة.
وحيث إنه فضلاً عما تقدم، فإن الأصل وفقاً لنص المادة ٦٦ من الدستور هو أن يكون لكل جريمة عقوبة محددة ينص القانون عليها في صلبه، أو تتقرر – على الأقل – وفقاً للحدود التي يبينها. كذلك، فإن من القواعد المبدئية التي يتطلبها الدستور في القوانين الجزائية أن تكون درجة اليقين التي تنتظم أحكامها في أعلى مستوياتها، وأظهر في هذه القوانين منها في أية تشريعات أخرى، ذلك أن القوانين الجزائية تفرض على الحرية الشخصية أخطر القيود وأبلغها أثراً، ويتعين بالتالي – ضماناً لهذه الحرية – أن تكون الأفعال التي تؤثمها هذه القوانين محددة بصورة قاطعة بما يحول دون التباسها بغيرها، وبمراعاة أن تكون دوماً جلية واضحة في بيان الحدود الضيقة لنواهيها، ذلك أن التجهيل بها أو انبهامها في بعض جوانبها لا يجعل المخاطبين بها على بينة من حقيقة الأفعال التي يتعين عليهم تجنبها. كذلك فإن غموض مضمون النص العقابي مؤداه أن يحال بين محكمة الموضوع وبين إعمال قواعد منضبطة تعين لكل جريمة أركانها وتقرر عقوبتها بما لا خفاء فيه، وهي قواعد لا ترخص فيها وتمثل إطاراً لعملها لا يجوز تجاوزه، ذلك أن الغاية التي يتوخاها الدستور هي أن يوفر لكل مواطن الفرص الكاملة لمباشرة حرياته في إطار من الضوابط التي قيدها بها. ولازم ذلك أن تكون القيود على الحرية التي تفرضها القوانين الجزائية، محددة بصورة يقينية لأنها تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها كي يدفعوا عن حقهم في الحياة، وكذلك عن حرياتهم تلك المخاطر التي تعكسها العقوبة. ولقد كان غموض القوانين الجزائية مرتبطاً من الناحية التاريخية بإساءة استخدام السلطة، وكان أمراً مقضياً أن يركن المشرع إلى مناهج جديدة في الصياغة لا تنزلق إلى تلك التعبيرات المرنة أو الغامضة أو المتميعة المحملة بأكثر من معنى والتي تنداح معها دائرة التجريم بما يوقع محكمة الموضوع في محاذير واضحة قد تنتهي بها – في مجال تطبيقها للنصوص العقابية – إلى ابتداع جرائم لا يكون المشرع قد قصد حقيقة إلى إنشائها، وإلى مجاوزة الحدود التي اعتبرها الدستور مجالاً حيوياً لمباشرة الحقوق والحريات التي كفلها. وهو ما يخل في النهاية بالضوابط الجوهرية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة وفقاً لنص المادة ٦٧ من الدستور، والتي عرفتها هذه المحكمة بأنها تعكس نظاماً متكامل الملامح يتوخى بالأسس التي يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه وحرياته الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافها.
وحيث إنه إذ كان ما تقدم، وكانت خاصية الوضوح واليقين في القوانين الجزائية غايتها ضمان الحرية الفردية في مواجهة التحكم انطلاقاً من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة، وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية، لضمان أن تباشر كل دولة السلطة المخولة لها – في مجال فرض العقوبة صوناً للنظام الاجتماعي – بمراعاة الأغراض النهائية للقوانين العقابية التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفاً مقصوداً لذاته. متى كان ذلك، فإن انتفاء الغموض في هذه القوانين يقع في نطاق مجموعة القيم التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية التي لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن القواعد المبدئية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة – وإن كانت إجرائية في الأصل – إلا أن تطبيقها في مجال الدعوى الجنائية – وعلى امتداد حلقاتها – يؤثر بالضرورة في محصلتها النهائية، ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية توجبها الفطرة وتفرضها حقائق الأشياء. متى كان ذلك، وكان افتراض البراءة يمثل أصلاً ثابتاً يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها وليس بنوع العقوبة المقررة لها، وكان هذا الأصل يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبهاً فيه أم كان متهماً باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي أقرتها الشرائع جميعها – لا لتكفل بموجبها الحماية للمذنبين – وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن كل فرد إذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة محل الاتهام الجنائي. متى كان ذلك، وكان الاتهام الجنائي – في ذاته – لا يزحزح أصل البراءة، بل يلازم الفرد دوماً ولا يزايله سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثناءها، وعلى امتداد حلقاتها، وأيا كان الزمن الذي تستغرقه إجراءاتها، فقد غدا دحض أصل البراءة ممتنعاً بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الإقناعية – في مجال ثبوت التهمة – مبلغ الجزم واليقين، بما لا يدع مجالاً معقولاً لشبهة انتفائها وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتاً.
وحيث إن البين من نص المادة ٥ المطعون عليها أن للاشتباه صورتين يمثل الاشتهار إحداهما وتفصح عن أخراهما سوابق متعددة مردها إلى أحكام إدانة سابقة، أما الصورة الأولى – وهي الاشتهار – فقد نظمتها المادة ٥ المشار إليها وذلك بنصها على أن كل من تزيد سنه على ثماني عشرة سنة يعتبر مشتبهاً فيه إذا اشتهر عنه أنه اعتاد ارتكاب بعض الجرائم أو الأفعال التي حددتها هذه المادة حصراً، وكان الاشتباه بهذا المعنى – وطبقاً لما جرى عليه القضاء في مجال تطبيقه – ليس وصفاً دائماً أو مؤبداً، ولا يعتبر في مبناه مرتبطاً بفعل يحس به في الخارج، ولا هو واقعة مادية تمثل سلوكاً محدداً أتاه الجاني، ودفعها إلى الوجود، لتقام عليه الدعوى الجنائية من أجل ارتكابها، وإنما قوامه حالة خطرة كامنه فيه مرجعها إلى شيوع أمره بين الناس باعتباره من الذين اعتادوا مقارفة جرائم وأفعال مما عينتها المادة ٥ المطعون عليها، وهي حالة رتب المشرع على تحققها بالنسبة إليه محاسبته وعقابه، وأجاز التدليل عليها بالأقوال أو السوابق أو التقارير الأمنية بعد أن قدر أن جميعها تعتبر كاشفة عن الصلة بين حاضره وماضيه، وقاطعة في توكيد خطورته. متى كان ذلك، وكان هذا الاتجاه التشريعي يقوم على افتراض لا محل له، ويناهض نصوص الدستور التي تعتد بالأفعال وحدها باعتبارها مناط التأثيم وعلته، ولأنها دون غيرها هي التي يجوز إثباتها ونفيها، وهي التي يتصور أن تكون محل تقدير محكمة الموضوع، وأن تكون عقيدتها بالبناء عليها، وكان لا شبهة في أن الأقوال التي تتردد في شأن شخص معين، وكذلك السوابق أو التقارير أياً كان وزنها، لا تنزل منزلة الأفعال التي يجوز إسنادها إلى مقارفها، ولا هي قاطعة في اتجاه إرادته وانصرافها إلى ارتكابها، وقد تنقصها الدقة أو تفتقر إلى الموضوعية، وكان من المقرر أنه لا يجوز – في أية حال – أن تكون مصائر الناس معلقة على غير أفعالهم، أما أقوال الآخرين في حقهم فلا يملكون لها دفعاً، ولا سبيل لهم عليها؛ لتعلقها بما شاع عنهم، وقد تحيط بهم زوراً وبهتاناً، وكان الاشتهار بالمعنى الذي قصد إليه النص المطعون فيه يعتبر – في ذاته – مكوناً لجريمة لا يعاصرها فعل أو أفعال بعينها، وهو فوق هذا يجهل بماهية الأفعال التي يتعين على المخاطبين بالقوانين الجزائية توقيها وتجنبها، والتي يوقعهم ارتكابها في حومة المخالفة لنواهيها، فإن الاشتهار – وفقاً لما جرى به النص المطعون فيه – لا يكون محدداً ماهية الأفعال المنهي عنها بصورة قاطعة، ومفتقراً بالتالي إلى خاصية اليقين التي لا يجوز أن تتحلل القوانين الجزائية منها، ومنصرفاً كذلك إلى حالة خطرة تستمد عناصرها من السوابق أو الأقوال أو غيرها، وجميعها لا ترقى إلى مرتبة الفعل ولا يقوم هو بها، ومن ثم يقصر الاشتهار عن أن يكون من الأفعال التي يجوز تجريمها وفقاً لضوابط الدستور وضماناته التي يؤدي الإخلال بها إلى اقتحام الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، وإلى الانتقاص من الحقوق التي كلفها الدستور في مواجهة التسلط أو التحامل. كذلك فإنه مما يناقض إدانة الشخص على أساس الاشتهار بالمعنى السابق، افتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه إلى أن تخلص المحكمة إلى إدانته بصفة باتة بعد اقتناعها بالأدلة الكافية على ثبوتها بما لا يدع مجالاً لشبهة انتفائها، وهي أدلة لا تدور إلا على الأفعال التي نسبتها النيابة العامة إليه باعتبارها ركناً مادياً في الجريمة. ولا كذلك الاشتهار، إذا لا يؤول إلى فعل محدد يكون مادة الجريمة أو موضوعها، وإنما يقوم على مجرد حالة لا تنشئها أو تتصل بها أفعال مادية قام الدليل عليها يعبر بها الجاني عن إرادته الواعية الجازمة، متوسلاً بها إلى بلوغ النتيجة الإجرامية التي يبتغيها.
وحيث إنه عن الصورة الأخرى للاشتباه والتي تقوم في جوهرها على أحكام إدانة سابقة، فقد فصلتها المادة ٥ المطعون عليها وذلك فيما قررته من أن كل من تزيد سنه على ثماني عشرة سنة، يعد مشتبهاً فيه إذا كان قد حكم عليه أكثر من مرة في إحدى الجرائم التي عينتها هذه المادة، بما مؤداه أنه حتى في الأحوال التي يكون فيها الاشتباه مستنداً – في مصدره – إلى تعدد الأحكام الصادرة في الجرائم التي حددها القانون، فإن الاشتباه يظل جريمة بلا سلوك، إذ ليس شرطاً لقيامها أن يكون قد عاصرها أو اتصل بها فعل محدد إيجابياً كان هذا الفعل أم سلبياً. ومن ثم يكون مرد الاشتباه في هذه الصورة إلى الخطورة الناجمة عن جرائم سابقة ارتكبها شخص معين ليغدو الاشتباه صفة ينشئها المشرع في نفس قابلة لها بغية التحوط لأمن الجماعة وصون نظامها. ولا مرية في أن اعتبار الشخص مشتبها فيه بناء على جرائمه السابقة إنما يناهض السياسة الجنائية القويمة، إذ هو أدعى إلى انتباذه الجماعة التي يعيش فيها وشقه عصا الطاعة عليها. وآية ذلك أن الخطورة الناجمة عن جرائمه السابقة والتي يراد التحوط منها صوناً لمصالح الجماعة، لا تزيد عن كونها من العوامل التي تومئ إلى “احتمال” ارتكابه في المستقبل لجريمة غير معينة، وهي بذلك ترشح لمقارفتها، ولا تقطع بالانزلاق فيها، ولا يجوز بالتالي أن يتعلق التجريم بها. إذ ليس ثمة علاقة حتمية بين انغماس الشخص في جرائم سابقة، وبين ترديه في حمأتها والعودة إليها مرة أخرى. كذلك فإنه مما يناقض افتراض البراءة أن يدان الشخص لا عن جريمة بذاتها أتاها وتتحدد عقوبتها بالنظر إلى ماهيتها وظروفها، بل بناء على محض احتمال عوته إلى الإجرام. بما مؤداه أن الخطورة الإجرامية التي يعتبر الشخص بموجبها مشتبهاً فيه قوامها عناصر مستمدة من ماضيه، ودليلها جرائمه السابقة إذ تعتبر كاشفة عن خطورته هذه وقاطعة بها، ومن ثم تكون سوابقه دامغة لحاضره، وملطخة لمستقبله، بل ومحددة لمجراه، ومدخلاً إلى إدانته عن جريمة قوامها الحالة الخطرة في ذاتها، وهي حالة تنشئها الجرائم السابقة التي ارتكبها والتي تم تنفيذ عقوباتها كاملة بالنسبة إليه. وهي بعد جريمة نص القانون على أن تتخذ في شأنها التدابير المنصوص عليها في مادته السادسة، وجميعها تدابير سالبة للحرية لها وطأة العقوبة وخصائصها، وقد اعتبرتها مادته العاشرة مماثلة لعقوبة الحبس في تطبيق أحكام قانون العقوبات أو أي قانون آخر. هذا بالإضافة إلى أن توقيعها في ذاته ينطوي على معاقبة الشخص أكثر من مرة عن فعل واحد، فقد حوكم عن جرائمه السابقة جميعها وتم استيفاء عقوبة كل منها، وليس ثمة جريمة أخرى قارفها – قوامها فعل أو امتناع – حتى تقام الدعوى الجنائية عنها، وإنما تحركها حالته الخطرة التي افترض المشرع ارتكازها على سوابقه ورتبها عليها. ولا ينال مما تقدم قالة أن مواجهة النزعة الإجرامية الكامنة فيمن تتعدد سوابقه وكبحها، لازمها اعتباره مشتبهاً فيه توقياً لخطورته، ذلك أن محكمة الموضوع يكفيها أن تقدر بمناسبة الجريمة الأخيرة التي ارتكبها الجزاء الملائم لها مراعية في ذلك ماضيه الإجرامي.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان مبدأ عدم جواز معاقبة الشخص مرتين عن فعل واحد، من المبادئ التي رددتها النظم القانونية على اختلافها، ويعتبر جزءاً من الحقوق الأساسية التي تضمنها الاتفاقيات الدولية لكل إنسان، ويخل إهداره بالحرية الشخصية التي يعتبر صونها من العدوان، ضمانة جوهرية لآدمية الفرد ولحقه في الحياة، ذلك أن الجريمة الواحدة لا تزر وزرين. وباستيفاء من ارتكبها للعقوبة المقدرة لها – وهي عقوبة لا يفرضها المشرع جزافاً، وإنما يفرد لكل جريمة العقوبة التي يقدر أنها مناسبة لها – فإن الحق في القصاص يكون قد بلغ غاية الأمر فيه. وقد جرى قضاء هذه المحكمة على أن خضوع الدولة للقانون محدد على ضوء مفهوم ديموقراطي مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التي يعتبر التسليم بها في الدول الديمقراطية مفترضاً أولياً لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة، ويندرج تحتها طائفة من الحقوق تعتبر وثيقة الصلة بالحرية الشخصية التي كفلها الدستور في مادته الحادية والأربعين واعتبرها من الحقوق الطبيعية التي لا تمس، ومن بينها ألا تكون العقوبة الجنائية التي توقعها الدولة بتشريعاتها مهينة في ذاتها أو ممعنة في قسوتها، أو منطوية على تقييد الحرية الشخصية بغير انتهاج الوسائل القانونية السليمة، أو متضمنة معاقبة الشخص أكثر من مرة عن فعل واحد، وكان الاشتباه في صورتيه المشار إليهما بنص المادة ٥ المطعون عليها لا يعتبر فعلاً اتخذ مظهراً خارجياً ملموساً، ولا هو يقيد الحرية الشخصية بمراعاة الوسائل القانونية المتوافقة مع أحكام الدستور في جوانبها الموضوعية والإجرائية، أو يلتزم الضوابط التي أرستها هذه المحكمة في شأن المحاكمة المنصفة، ومن بينها افتراض البراءة كحقيقة مستعصية على الجدل تمليها الشرعية الجنائية، وكان الاشتباه في الصورة التي يقوم فيها على أحكام الإدانة السابقة، يتمحض عن معاقبة الشخص مرتين عن فعل واحد، فإن المادة ٥ المشار إليها تكون مخالفة لأحكام المواد ٤١، ٦٦، ٦٧ من الدستور.
وحيث إنه إذ كان ما تقدم، وكانت النصوص التي ينتظمها العمل التشريعي لا تعتبر – من زاوية العيوب الموضوعية – مهدرة بتمامها إلا في إحدى حالتين:
أولاهما: إذا كان فصل النصوص التي أبطلتها المحكمة عما سواها متعذراً، وكان ملحوظاً عند إقرار المشرع للنصوص جميعها ما بينها من صلة حتمية تجعل ترابطها معاً واتصال أجزائها ببعض، حقيقة قانونية لا مراء فيها.
ثانيتهما: إذا كان متعذراً بعد إبطال المحكمة للنصوص المخالفة للدستور، أن تكفل النصوص المتبقية الوفاء بمقاصد التشريع، وغاياته.
وحيث إنه إذ كان ذلك، وكان إبطال هذه المحكمة نص المادة ٥ من القانون المطعون عليه مؤداه زوال النصوص الأخرى المرتبطة بها، باعتبار أنها مترتبة عليها، ولا قوام لها بدونها، ولا يتصور إعمالها في غيبتها، وما كان المشرع ليقرها بمعزل عن المادة ٥ المشار إليها أو استقلالاً عنها، فإن أحكام المواد ٦، ١٣، ١٥ من هذا القانون تكون مع مادته الخامسة كلاً لا يتجزأ وتسقط تبعاً لها.

زر الذهاب إلى الأعلى