حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٣٤ لسنة ١٦ دستورية
حكم المحكمة الدستورية العليا رقم ٣٤ لسنة ١٦ دستورية
المحكمة الدستورية العليا
بالجلسة العلنية المنعقدة فى يوم السبت ١٥ يونيه سنة ١٩٩٦ الموافق ٢٨ المحرم سنة ١٤١٧ هـ .
برئاسة السيد المستشار الدكتور / عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وعضوية السادة المستشارين: – محمد ولى الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين أعضاء
وحضور السيد المستشار الدكتور / حنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين
وحضور السيد / حمدى أنور صابر أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول
المحكمة الدستورية العليا
برقم ٣٤ لسنة ١٦ قضائية دستورية
المقامة من
صالح عبد المنعم سليم
ضد
١ – السيد / رئيس مجلس الوزراء بصفته
٢ – السيد / وزير العدل بصفته
٣ – السيد / مجدى زكى جوده بصفته وكيلا للدائنين فى تفليسة شركة محلات المنصورى
٤ – السيد / مصطفى محمد شوقى بصفته وكيلا للدائنين فى تفليسة شركة محلات المنصورى
الإجراءات
بتاريخ ١٩ اكتوبر سنة ١٩٩٤، أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة طالباً الحكم بعدم دستورية نص المادة (٢٣٦) من قانون التجارة ، وذلك لمخالفتها المواد (٨، ٤٠، ٦٨) من الدستور.
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم أصلياً: برفض الدعوى ، واحتياطياً: برفضها.
وبعد تحضير الدعوى ، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
المحكمة
حيث إن الوقائع – على مايبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن السيد / علاء الدين عبدالمنعم نونو، كان قد أقام الدعوى رقم ٢٤٠ لسنة ١٩٨٧ إفلاس إسكندرية ضد شركة محلات المنصورى ، طالباً الحكم بإشهار إفلاسها، ووضع الأختام على مقرهاوأموالها، وتعيين وكيل للدائنين ومأمور للتفليسة . وبجلسة ٢٨ / ٥ / ١٩٨٨ قضت المحكمة فى مادة إفلاس:
أولاً: – بإشهار إفلاس المدعى عليها واعتبار يوم ٢٥ / ١ / ١٩٨٧ تاريخاً مؤقتاً لتوقفها عن الدفع، وتعيين السنديك صاحب الدور وكيلاً للدائنين.
ثانياً: – تعيين الأستاذ المستشار رئيس الدائرة مأموراً للتفليسة للإشراف عليها.
ثالثاً: – وضع الأختام على مقر الشركة المدعى عليها وأموالها.
بتاريخ ١٤ / ٤ / ١٩٩٣ طلب السيد / صالح عبد المنعم سليم من مأمور التفليسة فض تلك الأختام، إلا أنه رفض ذلك، فأقام تظلماً من هذا الأمر استناداً لنص المادة (٢٣٦) من قانون التجارة التى تجيز التظلم أمام المحكمة الابتدائية ، فى الأوامر التى تصدر عن مأمور التفليسة ، فى الأحوال التى يحددها القانون. وإذ قدر المدعى فى الدعوى الدستورية الراهنة ، أن هذا النص مؤداه: أن تفصل المحكمة الابتدائية فى التظلم المرفوع إليها، ولو كان مأمور التفليسة من بين أعضائها أو كان رئيسها، فقد دفع أمام المحكمة الابتدائية – فى الدعوى المقيدة أمامها برقم ٢٤٠ لسنة ١٩٨٧ – بعدم دستورية ذلك النص. وإذ ارتأت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع، فقد خولته رفع الدعوى الدستورية ، فأقام دعواه الماثلة .
وحيث إن المادة (٢٣٦) من قانون التجارة تقضى بما يأتى : ولا يقبل التظلم من الأوامر التى تصدر عن مأمور التفليسة إلا فى الأحوال المبينة فى القانون، ويرفع التظلم فى الأحوال المذكورة للمحكمة الابتدائية .
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة – وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها أن يقوم ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية ، وذلك بأن يكون الحكم فى المسائل الدستورية لازما للفصل فى الطلبات الموضوعية المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع؛ وكان النزاع الموضوعى يدور حول اعتراض المتظلم على القرار الصادر من مأمور التفليسة برفض فض الاختام على أموال الشركة المدعية ؛ وكانت الخصومة الدستورية قوامها أن هذا المأمور قد يكون من بين قضاتها مما يعد إخلالاً بضمانة الحيدة ، وبحق الشخص فى اللجوء إلى قاضيه الطبيعى ، فإن الفصل فى هذه الخصومة يكون مرتبطا بالنزاع الموضوعى .
وحيث إن هيئة قضايا الدولة ذهبت فى مذكرتها، إلى انتفاء مصلحة المدعى فى الطعن بعدم دستورية نص المادة (٢٣٦) من قانون التجارة ، تأسيساً على أن المحكمة الابتدائية التى تنظر التظلم من الأوامر التى تصدر عن مأمور التفليسة ، تتعدد دوائرها، وقد يُعْرض التظلم من أوامر هذا المأمور على دائرة لا يكون هو من بين أعضائها أو رئيسها، بل إن عرض هذا التظلم على دائرة يكون المأمور من قضاتها، لا يخل بحق المدعى فى التمسك أمامها بالقواعد التى قررها قانون المرافعات فى شأن صلاحية القاضى ورده وتنحيه عن نظر خصومة بذاتها.
وحيث إن هذا النعى مردود أولاً: – بأن عرض التظلم من أوامر مدير التفليسة على دائرة يكون هو من بين أعضائها أو على غيرها، احتمالان متساويان. ومن المقرر أنه إذا تقابل دليلان أو أمارتان، وكان استواؤهما نافياً لرجحان أحدهما، فإن القول بتقديم أيهما، يكون ممتنعاً. ومردود ثانياً: – بأن النص المطعون فيه لا يتضمن نهياً جازماً عن أن يكون المأمور ماثلا فى الدائرة التى رفع إليها التظلم من الأوامر التى أصدرها، ليكون مستصحبا أصل الحل، دالاً على جواز أن يكون ضمن تشكيلها. ومردود ثالثاً: – بأن قانون المرافعات المدنية والتجارية وإن حدد بنصوص آمرة ، أحكام عدم صلاحية القاضى وصور رده، إلا أن هذه الضمانة لا تعمل بذاتها فى الأعم من الأحوال، بل يكون إنفاذها غالباً من خلال خصومة قضائية تحركها، لتقوم للمدعى مصلحة شخصية ومباشرة فى إبطال النص المطعون فيه الذى أسقطها.
وحيث إن المدعى ينعى على النص المطعون فيه، مخالفته للمواد (٨، ٤٠، ٦٨) من الدستور، التى تكفل أولاهما: للمواطنين جميعهم تكافؤ الفرص، وثانيهما: مساواتهم أمام القانون، وثالثهما: حقهم فى اللجوء إلى قاضيهم الطبيعى .
وقال بياناً لذلك، أن الأصل وفقاً لنص المادة (١٤٦) من قانون المرافعات، أن يكون القاضى غير صالح لنظر الدعوى ممنوعاً من سماعها ولو لم يرده خصم، إذا كان قد سبق أن أبدى فيها رأياً، أو كان قد نظرها ولو باعتباره خبيراً أو محكماً؛ وكان من المفترض أن يكون تطبيق قانون المرافعات عاماً منصرفاً إلى المواطنين جميعهم، إلا أن النص المطعون فيه، أفرد المتقاضين أمام محكمة الإفلاس بحكم خاص، جردهم به من تلك الضمانة الرئيسية التى نص عليها قانون المرافعات، ذلك أن تظلمهم من الأوامر التى تصدر عن مأمور التفليسة ، يُحيل نزاعهم بشأنها إلى المحكمة الابتدائية ، ولو كان هذا المأمور رئيسها أو عضواً بها، فلا يكون فصلها فيه محايداً، مما يخل بمساواتهم أمام القانون فى مواجهة أقرانهم الذين يتكافأون معهم فى مراكزهم القانونية ، وهو ما يعنى إسقاط حقهم فى اللجوء إلى قاضيهم الطبيعى .
وحيث إن من المقرر أن الإفلاس طريق للتنفيذ الجماعى على أموال المدين التاجر،إذا قضى باعتباره متوقفاً عن سداد ديونه التجارية فى مواعيد استحقاقها، بما يزعزع ائتمانه، ويعرض حقوق دائنيه لخطر محقق، أو لنذر تتهددها بالضياع. وليس الإفلاس المشهر إلا حالة لا تتجزأ تقوم بالتاجر المفلس تبعاً للحكم الصادر بها، ليكون سارياً فى شأن الدائنين جميعاً، ولو لم يكونوا أطرافاً فى خصومة الإفلاس، منصرفاً إلى ذمة التاجر بأكملها، ومنشئاً لمركز جديد من أثره غل يد التاجر المفلس، فلا يدير الأموال التى يملكها أو يباشر تصرفاً فى شأنها توقياً لتهريبها أو اختلاسها أو إتلافها، إضراراً بالدائنين، وإضعافاً لضمانهم العام، وصوناً لجوهر مصالحهم التى ينافيها تزاحمهم فيما بينهم من خلال التسابق لتحصيل حقوقهم التى لا يكفلها إلا حشدهم فى جماعة واحدة ، توحد جهودهم، وتقيم فيما بينهم مساواة يتقاسمون على ضوئها أموال المدين غارمين، فلا تكون حقا لبعضهم من دون الآخرين، بل تباع لحسابهم أجمعين، وتوزع عليهم حصيلتها بنسبة ديونهم.
وحيث إن شهر الإفلاس لا ينقل أموال التاجر إلى الدائنين، ولا ينال من حقوق المفلس قبل الغير، بل تظل على حالها وطبيعتها، وإن كان غل يد المدين عن أمواله، مؤداه احتجازها برمتها لمصلحة زمرة الدائنين التى تعتبر بالنسبة إلى المفلس من الغير؛ وكان الدائنون وإن أقاموا عنهم سنديكا يعتبر وكيلاً فى إدارة أموال المفلس وصونها، وتقرير التدابير التحفظية اللازمة لحمايتها، حتى يتخذ الدائنون – على ضوء تقديره لأصول ذمته المالية وخصومها – قراراً فى شأن التفليسة ، سواء بالتصالح مع المدين المفلس، أو بالسير بها إلى نهايتها الطبيعية من خلال تصفية أمواله بصورة جماعية وتوزيعها فيما بين الدائنين، إلا أن قانون التجارة لا يجعل هذا الوكيل مستقلاً بشئون التفليسة ، أو منفرداً بسلطان عليها، بل يباشر متطلباتها مراقباً فى ذلك من مأمور تُعينه المحكمة التى صدر عنها حكم شهر الإفلاس، ليكون صلتها بين وكيل الدائنين وبينها، وضماناً لأن تتفرغ هى للمسائل الخطيرة وحدها التى تثيرها التفاليس التى تنظرها، والتى دل العمل على تعددها، وكثرة تفصيلاتها وتنوع منازعاتها. ومن ثم كان تعيينها أحد قضاتها – ممن يتمتعون بقدر من الخبرة وطول المران – لمراقبة أعمال وكيل الدائنين، عاصماً من تدهور شئون التفليسة ، وتوكيداً لحسن إدارتها.
وحيث إن البين مما تقدم – وعملاً بنص المادة (٢٣٤) من قانون التجارة – أن مأمور التفليسة ليس إلا قاضياً من محكمة الإفلاس، يعين فى الحكم الصادر عنها بشهره، ليلاحظ – فى الحدود المقررة قانوناً – أعمالها وإجراءاتها منذ افتتاحها وحتى نهايتها. ويعتبر الأمر الصادر عن هذا المأمور من الأعمال الولائية التى لم يجز نص المادة (٢٣٦) من قانون التجارة ، الطعن فيها إلا فى الأحوال المقررة قانوناً، على أن يُرفع الطعن أمام محكمة الإفلاس التى يتبعها؛ وكان ما ينعاه المدعى على نص هذه المادة ، أن تطبيقها مؤداه: أن تفصل فى هذا الطعن محكمة يكون مأمور التفليسة – المتظلم من أوامره – من بين أعضائها، مما يخل بحيدتها، فإن الخصومة الدستورية الماثلة أمام
المحكمة الدستورية العليا
تطرح عليها بالضرورة الفصل فى نطاق الضمانة الجوهرية لحيدة العمل القضائى ، وما إذا كان إعمالها يعد أصلاً دستورياً ثابتاً.
وحيث إن الدستور قد نص فى المادة (١٦٦)، على أن القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم فى قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأى سلطة التدخل فى القضايا أو شئون العدالة ؛ وكان هذا الاستقلال يتوخى أن يكون عاصماً من التدخل فى شئون السلطة القضائية ، أو التأثير فى مجرياتها، أو تحريفها، أو الإخلال بمقوماتها باعتبار أن القرار النهائى فى شأن حقوق الأفراد وواجباتهم وحرياتهم، بيد أعضائها، ترد عنهم العدوان، وتقدم لمن يلوذ بها الترضية القضائية التى يكفلها الدستور أو القانون أو كلاهما، لايثنيها عن ذلك أحد. وليس لجهة أياً كان شأنها، أن تصرفها عن مهامها أو تعطلها.
وحيث إن استقلال السلطة القضائية مؤداه: أن يكون تقدير كل قاض لوقائع النزاع، وفهمه لحكم القانون بشأنها، متحرراً من كل قيد، أو تأثير، أو إغواء، أو وعيد، أو تدخل، أو ضغوط، أيا كان نوعها أو مداها أو مصدرها أو سببها أو صورتها، ما يكون منها مباشراً أو غير مباشر؛ وكان مما يعزز هذه الضمانة ويؤكدها، استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية ، وأن تنبسط ولايتها على كل مسألة من طبيعة قضائية ، وأن يكون استقلال أعضائها كاملا قبل بعضهم البعض، فلا تتأثر أحكامها بموقعهم من رؤسائهم أو أقرانهم على ضوء تدرجهم وظيفياً فيما بينهم. ويتعين على السلطة التنفيذية بوجه خاص ألا تقوم من جانبها بفعل أو امتناع يجهض قراراً قضائياً قبل صدوره، أو يحول بعد نفاذه دون تنفيذه تنفيذاً كاملاً. وليس لعمل تشريعى أن ينقض قراراً قضائياً، ولا أن يحور الأثار التى رتبها، ولا أن يعدل من تشكيل هيئة قضائية ليؤثر فى أحكامها. بل إنه مما يدعم هذا الاستقلال، أن يكون للقضاة حق الدفاع عن محتواه بصورة جماعية ، من خلال الآراء التى يعلنونها، وفى إطار حق الاجتماع.
ويتعين دوماً أن يكون إسناد القضايا إليهم وتوزيعها فيما بينهم عملاً داخلياً محضاً، فلاتوجهه سلطة دخيلة عليهم أياً كان وزنها. ولا يجوز كذلك – فى إطار هذا الاستقلال – تأديبيهم إلا على ضوء سلوكهم الوظيفى ، ولاعزلهم إلا إذا قام الدليل جلياً على انتفاء صلاحيتهم، ولاخفض مدة خدمتهم أثناء توليهم لوظائفهم، ولاتعيينهم لآجال قصيرة يكون عملهم خلالها موقوتاً، ولا اختيارهم على غير أسس موضوعية تكون الجدارة والاستحقاق مناطها. ويجب بوجه خاص أن توفر الدولة لسلطتها القضائية – بكل أفرعها – ما يكفيها من الموارد المالية التى تعينها على أن تدير بنفسها عدالة واعية مقتدره، وإلا كان استقلالها وهما.
وحيث إن القواعد المتقدمة تمثل – بعناصرها ومستوياتها – الحد الأدنى لاستقلال السلطة القضائية ، التى تتغيا برسالتها ضمان التحقيق الكامل لحقوق الناس جميعا وحرياتهم، وإرساء القيم العليا لإرادة الاختيار من خلال نظم ديموقراطية يستقيم تطبيقها مع الأسس المعاصرة للدول المتحضرة .
وحيث إن استقلال السلطة القضائية ، وإن كان لازماً لضمان موضوعية الخضوع للقانون، ولحصول من يلوذون بها على الترضية القضائية التى يطلبونها عند وقوع عدوان على حقوقهم أو حرياتهم، إلا أن حيدتها عنصر فاعل فى صون رسالتها لا يقل شأناً عن استقلالها، بما يؤكد تكاملها.
ولئن كان بعض الفقهاء يولون عنايتهم لاستقلال السلطة القضائية ، ولا يعرضون لحيدتها إلا بصورة جانبية ، ويمزجون بينهما أحياناً، إلا أن التمييز بين مفهوم استقلال السلطة القضائية وحيدتها، يتعين أن يكون فاصلا بين معنيين لايتداخلان، ذلك أن استقلال السلطة القضائية ، يعنى أن تعمل بعيداً عن أشكال التأثير الخارجى التى توهن عزائم رجالها، فيميلون معها عن الحق إغواء أو إرغاماً، ترغيباً أو ترهيباً. فإذا كان انصرافهم عن إنفاذ الحق تحاملا من جانبهم على أحد الخصوم، وانحيازاً لغيره، لمصالح ذاتية أو لغيرها من العوامل الداخلية التى تثير غرائز ممالأة فريق دون آخر، كان ذلك منهم تغليباً لأهواء النفس، منافياً لضمانة التجرد عند الفصل فى الخصومة القضائية ، مما يخل بحيادهم. يؤيد ذلك: –
أولاً: – أن استقلال السلطة القضائية واستقلال القضاة ، وإن كفلتهما المادتان (١٦٥، ١٦٦) من الدستور، توقياً لأى تأثير محتمل قد يميل بالقاضى إنحرافاً عن ميزان الحق، إلا أن الدستور نص كذلك على أنه لا سلطان على القضاة فى قضائهم لغير القانون. وهذا المبدأ الأخير لا يحمى فقط استقلال القاضى ، بل يحول كذلك دون أن يكون العمل القضائى وليد نزعة شخصية غير متجردة ، وهو أمر يقع غالباً إذا فصل القاضى فى نزاع سبق أن أبدى فيه رأياً. ومن ثم تكون حيدة القاضى شرطاً لازماً دستورياً لضمان ألا يخضع فى عمله لغير سلطان القانون.
ثانياً: – ما قرره إعلان المبادئ الأساسية فى شأن استقلال القضاة التى تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بقراريها الصادرين فى ٢٩ / ١١ / ١٩٨٥ و١٣ / ١٢ / ١٩٨٥، وهما يؤكدان أن القضاة يفصلون – فى إطار من الحيدة – فيما يعرض عليهم من منازعات على ضوء وقائعها ووفقاً للقانون، غير مدفوعين بتحريض، أو معرضين لتدخل بلا حق، أو محملين بقيود أو ضغوط أو تهديد – مباشراً كان أم غير مباشر – أيا كان مصدرها أو سببها.
Les magistrats réglent les affaires dont ils sont saisis impartialement, daprés les faits et conformément a la loi , sans restrictions et sans etre l objet dinfluences , incitations, pressions , menaces ou interventions indues, directes ou indirectes, de la part de qui que ce soit ou pour quelque raison que ce soit.
[ Principes fondamentaux relatifs a Lindépendance de la magistrature Adoptés par le septiéme Congrés des Nations Unies pour la prévention du crime et le traitement des délinquants qui sest tenu a Milan du ٢٦ aout au ٦ septembre ١٩٨٥ et confirmés par LAssemblée génerale dans ses résolutions ٤٠ / ٣٢ du ٢٩ novembre ١٩٨٥ et ٤٠ / ١٤٦ du ٣١ décembre ١٩٨٥].
ثالثاً: – إن انصباب ضمانتا استقلال السلطة القضائية وحيدتها معا على إدارة العدالة ضمانا لفعاليتها، مؤداه: بالضرورة تلازمهما، فلا ينفصلان. ومن غير المتصور أن يكون الدستور نائياً بالسلطة القضائية عن أن تقوض بنيانها عوامل خارجية تؤثر فى رسالتها، وأن يكون إيصالها الحقوق لذويها مهدداً بالتواء ينال من حيدة وتجرد رجالها، وإذا جاز القول – وهو صحيح – بأن الفصل فى الخصومة القضائية – حقاً وعدلاً – لا يستقيم إذا داخلتها عوامل تؤثر فى موضوعية القرار الصادر عنها، أياً كانت طبيعتها وبغض النظر عن مصدرها أو دوافعها أو أشكالها، فقد صار أمراً مقضياً أن تتعادل ضمانتا استقلال السلطة القضائية وحيدتها فى مجال اتصالهما بالفصل فى الحقوق انتصافاً ترجيحاً لحقيقتها القانونية ، لتكون لهما معاً القيمة الدستورية ذاتها، فلا تعلو إحداها على أخراها أو تجبها، بل يتضاممان تكاملاً، ويتكافئان قدراً.
رابعاً: – إن ضمانة المحاكمة المنصفة التى كفلها الدستور بنص المادة (٦٧)، تعنى – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أن يكون لكل خصومة قضائية قاضيها – ولو كانت الحقوق المثارة فيها من طبيعة مدنية – وأن تقوم على الفصل فيها – علانية وإنصافا – محكمة مستقلة ومحايدة ينشئها القانون، يتمكن الخصم فى إطارها من إيضاح دعواه، وعرض أدلتها، والرد على ما يعارضها من أقوال غرمائه أو حججهم على ضوء فرص يتكافأون فيها جميعاً، ليكون تشكيلها، وقواعد تنظيمها، وطبيعة النظم المعمول بها أمامها، وكيفية تطبيقها عملاً مُحَدَّدَا للعداله مفهوماً تقدمياً يلتئم مع المقاييس المعاصرة للدول المتحضرة .
خامساً: – إن مفهوم حق التقاضى المنصوص عليه فى المادة (٦٨) من الدستور – على ما استقر عليه قضاء هذه المحكمة – مؤداه: أن مجرد النفاذ إلى القضاء لا يعتبر كافياً لصون الحقوق التى تستمد وجودها من النصوص القانونية ، بل يتعين دوماً أن يقترن هذا النفاذ، بإزالة العوائق التى تحول دون تسوية الأوضاع الناشئة من العدوان عليها، وبوجه خاص ما يتخذ منها صورة الأشكال الإجرائية المعقدة ، كى توفر الدولة للخصومة فى نهاية مطافها حلاً منصفاً يقوم على حيدة المحكمة واستقلالها، ويعكس بمضمونه التسوية التى يعمد الخصم إلى الحصول عليها بوصفها الترضية القضائية التى يطلبها.
وحيث إن ما ذهبت إليه هيئة قضايا الدولة ، من أن الأصل فى سلطة المشرع فى موضوع تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية ، مردود بأن القيود التى فرضها الدستور على المشرع – ومن بينها صون ضمانة الحيده – تعتبر حداً لتلك السلطة ترسم تخومها، وتبين ضوابطها، فلا يجوز الخروج عليها، لتظل الدائرة التى لا يتنفس الحق أو الضمانة محل الحماية إلا من خلالها – بعيدة عن عدوان السلطة التشريعية ، فلا تنال منها سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها.
وحيث إنه متى كان ماتقدم، وكان لايجوز أن يكون العمل القضائى موطئاً لشبهة تداخل تجرده، وتثير ظلالاً قاتمة حول حيدته، فلا يطمئن إليه متقاضون استرابوا فيه بعد أن صار نائياً عن القيم الرفيعة للوظيفة القضائية ، وكان لا يتصور – والنفس بطبيعتها لا تميل إلى تخطئة تصرفاتها – أن ينظر مأمور التفليسة فى تظلم مقدم إلى المحكمة التى يتبعها فى شأن الأوامر التى أصدرها فى موضوع محدد، مبلوراً بها رأياً توصل إليه، ليُعَدَََّل فيه أويُلغِيه من خلال التظلم، وكان لا يجوز بالتالى – انتصافاً لضمانة الحيده وتوكيداً لها – أن يكون هذا المأمور عضواً فى المحكمة التى تنظر الطعن فى أوامره، فإن النص المطعون فيه – وقد جرى على غير هذا المنحى – مسقطاً عن فئة من المتقاضين تلك الضمانة الجوهرية التى كفلها لغيرهم، يكون مخالفاً لأحكام المواد (٤٠، ٦٧، ٦٨، ١٦٦) من الدستور.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة (٢٣٦) من قانون التجارة فيما تضمنته من جواز أن يكون مأمور التفليسة عضواً بالمحكمة الابتدائية التى تفصل فى التظلم من الأوامر التى أصدرها بشأن التفليسة ، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنية مقابل أتعاب المحاماه.