تطور الديمقراطية في القديم إلى مشارف الأديان الكتابية
تطور الديمقراطية في القديم إلى مشارف الأديان الكتابية
نشر بجريدة الشروق الخميس 5/8/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
من المعلوم أن روما القديمة كانت تتلمذ على بحوث فلاسفة اليونان، ولكن هذه البحوث لم يكن لها أثر في تقرير نظام الحكومة.
ولكن الشعب قد استطاع أن يحصل على بعض الضمانات التي يعتمد عليها في مراجعة ذوي السلطان، وأصبحت موافقة وكلائه لازمة على الأحكام الكبرى، ولكنها كانت كلها ضمانات سلبية للمنع والوقاية لا للفعل والتوجيه، وبقى التصرف في الأموال العامة والسياسة الداخلية والخارجية مقصورًا على النبلاء.
وظل ملحوظًا أن «المواطن الروماني» هو دون غيره ـ المقصود بالمساواة القانونية، ولم يتعد كلام « شيشرون » عن المساواة الطبيعية بين الناس في كتابه الموسوم بالقوانين، أن يكون أشبه بالمساواة في حدود التعريفات المنطقية والصفات الطبيعية، ولم يستوجب العدل والمساواة، وهى نزعة ترددت عباراتها في أقوال المشرعين والفقهاء، إلاَّ أنها لم تجد مجالاً للتطبيق.
ومن الواضح إذن ـ فيما يعقب الأستاذ العقاد ـ أن هذه الديمقراطية لم تقم على الحق الإنساني المعترف به لكل إنسان، وأنها كانت أقرب إلى الضرورة العملية منها إلى المبادئ الفكرية والأصول الخلقية، ويصدق على هذه الديمقراطية التي تفرضها الضرورة أنه يتساوى فيها فضل التشريع وفضل الطبيعة، وأنها لم تعط حرية ولاحقًّا يمكن لصاحبه أن يأخذه ما لم يعطه أحد من أصحاب السلطة أو يمنعه، وليس هذا هو مقصد بيان تقرير الحقوق وإقامة الدساتير.
الديمقراطية في الأديان الكتابية
يورد الأستاذ العقاد أنه من تمام البحث في تطور الديمقراطية قبل الإسلام، الإلمام بسوابقها في الأديان الكتابية.
ويبدأ الأستاذ العقاد باليهودية باعتبارها الأسبق زمنًا، فيورد أن موسى عليه السلام تلقى أحكام الشريعة وأبلغها إلى جميع إسرائيل في سيناء، وأمرهم موسى أن يتخذوا لهم كهانًا من قبيلته وهى قبيلة اللاويين، وقال لهم: « إن الرب أفرز سبط لاوى ليحملوا تابوت عهد الرب ولكى يقفوا أمام الرب ليخدموه ويباركوا باسمه » ( سفر التثنية 10 : 8 )
وأمرهم موسى أيضًا أن يتخذوا لهم قضاةً: وعرفاء، وقال مخاطبًا إسرائيل: « لا تحرف القضاء ولا تنظر إلى الوجوه ولا تأخذ رشوة، لأن الرشوة تعمى أعين الحكماء وتعوّج كلام الصديقين » ( سفر التثنية 16 : 19، 20)
وقال موسى يخاطب إسرائيل: « إذ عسر عليك أمر القضاء بين دم ودم، أو بين دعوى ودعوى، أو بين ضربة وضربة من أمور الخصومات في أبوابك فقم واصعد إلى المكان الذي يختاره الرب إلهك واذهب إلى الكهنة اللاويين وإلى القاضي الذي يكون في تلك الأيام واسأل فيخبرونك بأمر القضاء… والرجل الذي يعمل بطغيان فلا يسمع للكاهن الواقف هناك ليخدم الرب إلهك، أو للقاضي يقتل فتنزع الشر من إسرائيل » ( التثنية 17 : 8 ـ 12)
وعلم موسى عليه السلام أن قومه سيتشبهون بمن حولهم ويطلبون لأنفسهم ملكًا فقال لإسرائيل: « متى أتيت إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك وملكتها وسكنت فيها فإن قلت اجعل علىّ ملكًا كجميع الأمم الذين حولي فإنك تجعل عليك ملكًا يختاره الرب إلهك من وسط إخوتك… ولا يحل لك أن تجعل عليك رجلاً أجنبيًّا ليس هو أخاك »
وقال « وعندما يجلس على كرسي مملكته يكتب لنفسه نسخة من هذه الشريعة في كتاب من عند الكهنة اللاويين… » (التثنية 17 : 14 ـ 15، 18)
وعلى هذا فارق موسى قومه ـ فيما يورد الأستاذ العقاد ـ وهم يدينون لملكٍ غير منظور وهو « يهوا » ملك إسرائيل، ويرجعون في استماع أوامره ونواهيه إلى الحبر أو القاضي الذي يتلقى الوحى عن عرش الإله، وظلوا كذلك إلى أيام قاضيهم صمويل، يرضون بقضائه ولا يطلبون ملكًا من بينهم لولاية أمرهم، فلما شاخ صمويل وأناب عنه ولديه ـ لم يسلكا مسلك أبيهما بل مالا إلى الكسب كما جاء في الإصحاح الثامن من سفر صمويل الأول: « وأخذا رشوة وعوجا القضاء. فاجتمع كل شيوخ إسرائيل… وقالوا لصمويل : إنك قد شخت وابناك لم يسيرا في طريقك فالآن فاجعل لنا ملكًا يقضى لنا كسائر الشعوب » ( صمويل الأول 8 : 3 ـ 5)
وساء الأمر في عيني صمويل، فتوجه إلى ربه بالدعاء على ما يروى العهد القديم فقال له الرب: « اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم… فالآن اسمع لصوتهم واشهد عليهم وأخبرهم بقضاء الملك فيهم » (صمويل الأول 8 : 7 ـ 9)
ومضى الأستاذ العقاد حتى لا أطيل عليك، يروى من واقع إصحاحات سفر صمويل الأول ما دار بينه وبين قومه من حوار ومن أخذٍ ورد، وكيف لم يستمع الشعب لنصيحة القاضي الحكيم، وطلبوا أن يكون لهم ملك كسائر الشعوب يقضى لهم ويخرج أمامهم ويحارب حروبهم، فسمع لهم صمويل، وتكلم إلى الرب بما طلبوه، فأجابه بأن يسمع لصوتهم ويملك عليهم ملكًا.
وقد اختار لهم صمويل ـ شاؤول ملكًا، ويبدو أن القيادة العسكرية كانت هي المطلب الأول في الملك المختار، حيث بقيت قيادة الرأي والشئون الروحية ـ بعد اختيار الملك ـ من عمل القاضي الحكيم. ( الإصحاح العاشر سفر صمويل الأول )
واحتفظ صمويل لنفسه بالسلطان الروحي، ولم يأذن للملك شاؤول بالنيابة عنه في أداء مراسمه، وعلى هذا الأساس قامت قواعد الحكومة فيما أثبته كتاب العهد القديم، وبقيت على الشعب الحكومة التي قامت من بيت شاؤول وبيت داود من بعده، ولم يعترف أحبار اليهود بحكومة شرعية بعد الحكومة التي قامت من بيت داود.
فلما قامت حكومة « الكابيين » ـ كره ولاتها أن يتلقبوا بلقب الملك، ولم تظهر صورهم على مسكوكات العملة حتى الوالي الرابع، فلما قامت حكومة « هيرود » تبرم بها الأحبار والشعب لأنهم « أدوميون » من غير إسرائيل وإن كانوا يدينون باليهودية، وحوكم كبيرهم أمام محكمة الأحبار لأنه قضى بالموت على قطّاع طرق بغير إذن من المراجع الدينية، فظل العداء مستحكمًا مع هذه الأسرة حتى استجابت الدولة الرومانية وعزلت آخرهم « أرشلاوس »، ولم يخلفه أحد.
توصيف هذا النظام
وجملة ما يقال في وصف هذا النظام بالوصف العصري، أنه نظام يجمع بين « الثيوقراطية » و« العنصرية » و« الديمقراطية ».
فهو ثيوقراطي لأن الاختيار موكول إلى الأحبار والكهان.
وهو عنصري لأنه خاص ببنى إسرائيل والكهانة فيه مقصورة هي الأخرى على سلالة معينة.
وهو ديمقراطي لأنه يسمح للشعب ـ بشكل ما ـ بطلب النظام الذي يؤثره ومبايعة الحاكم الذي يرشحه الأحبار.
ويبادر الأستاذ العقاد، إلى بيان أننا سوف نرى حين يعرض للنظام الديمقراطي كما بسطه القرآن الحكيم والسنة النبوية ـ أنه لم يتطور من هذا النظام.
* * *
ومن المؤكد فيما عنى الأستاذ العقاد بإثباته، أنه لم تسبق الإسلام ديمقراطية عربية كما توهم بعض المستشرقين وكتاب التاريخ الأوروبيين، ومن ثم لا فضل في تقرير الديمقراطية إلاَّ للإسلام الذي لم يسبقه ديمقراطية عربية.
بل وكانت الجزيرة العربية مليئة ــ فيما أثبت ــ بصور العنف والاستبداد والطغيان، لا ينفي ذلك ما بدا أنه حرية على أتمها في البداوة، فلم تكن صادرة عن مبدأ أو عن فكرة، ولا عن أى معنى من معاني الحقوق الإنسانية، وإنما كانت حرية في البيداء مصدرها قلة المنازعة عليها، لا قوة المبادئ والحقوق.
والواقع ـ فيما يقول ـ أن الجزيرة العربية عرفت قبل الإسلام ضروبًا من الطغيان والاستبداد لا تقل عن ضروبه المشهورة التي عرفت في الشعوب الأخرى، فهل يكفي هذا الحكم لنستخلص كيف يحسب السبق للديمقراطية الإسلامية.
قد راودني هذا الظن، ولكنى بادرت لتنحيته لسببين: الأول أنه يفرط في إقامة الأدلة ويصادر على المطلوب فيها وما يقتضيه من أن يكون الاستخلاص قائمًا على دليله. والثاني أن ما أورده الأستاذ العقاد ينطوي على معلومات جديرة بالإحاطة لتكتمل الرؤية الموضوعية على ضوء ما كان جاريًا فعلاً في شبه الجزيرة العربية في الإسلام.