تاريخ التقاضي في مصر (2 ـ 3).. بين دستوري 1923 و1971
تقرير: علي عبدالجواد
طرأت في الفترة ما بين عام 1923، وهو عام إصدار أول دستور مصري، وعام 1971 إصدار الدستور الدائم، تغييرات عديدة تمثلت في إنشاء محاكم وإلغاء أخرى، وذلك باعتبار أن مصر بين الدول التي عرفت النظم الحديثة في التنظيم القضائي منذ عهد بعيد.
والمتابعة الدقيقة لسلطة الحكم في مصر تكشف أنه كان هناك سعيا دائمًا من جانبها لفرض هيمنتها على كافة مفاصل الدولة، بما فيها مؤسسة القضاء، ونستعرض في هذا الجزء الثاني من تقريرنا حول تاريخ القضاء والتقاضي في مصر، عن التقاضي بين دستوري 1923 و1971.
1923 أول دستور مصري
اعتبر دستور 1923 القضاء أحد سلطات الدولة ويقرر في فصله الرابع أن “القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، وليس لأية سلطة في الحكومة التدخل في القضايا”.
وهو دستور بدأ العمل به في مصر الملكية في الفترة ما بين 1923 وحتى 1953. عقب صدور تصريح 28 فبراير 1922 الذي اعترف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، تم وضع دستور جديد للبلاد صدر في 19 أبريل عام 1923 ليحل محل القانون النظامي نمرة 29 لسنة 1913، ووضعته لجنة مكونة من ثلاثين عضو ضمت ممثلين للأحزاب السياسية والزعامات الشعبية وقادة الحركة الوطنية وقد زعم تلك اللجنة عبد الخالق ثروت.
ينص ذاك الدستور على أن حكومة مصر “ملكية وراثية وشكلها نيابي”.
ظل دستور 1923 معمولا به منذ صدوره وحتى تم إلغاءه في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1930 وصدور دستور جديد للبلاد عرف بدستور 1930 واستمر العمل به لمدة خمس سنوات كانت بمثابة نكسة للحياة الديمقراطية، وقد أدى قيام الشعب بالعديد من المظاهرات إلى أن تم إلغاء هذا الأخير بموجب الأمر الملكي من الملك فؤاد الأول رقم 142 لسنة 1935 في 19 ديسمبر، 1935 وهو الأمر الذي قضى بإعادة العمل بدستور عام 1923. بعد ذلك، ظل دستور 1923 ساريًا حتى أعلن مجلس قيادة الثورة في 10 ديسمبر، 1952 إلغاءه نهائيًا.
ويقول الدكتور شوقى السيد، الخبير الدستورى، إن دستور 1923 من الدساتير المتقدمة فى عهده بدليل أن تم الغائه والعودة له مرة أخرى فى أربع سنوات، مشيرا إلى أنه كان يفعل لممارسة دستورية قوية ويفصل بين السلطات ويؤكد على استقلال القضاء.
1931 نشأة محكمة النقض المصرية
نشأت محكمة النقض المصرية، في مايو 1931 وتعد رأس السلطة القضائية، إحدى السلطات الثلاث القائم عليها نظام الحكم فى مصر.
وتعد محكمة النقض المصرية محكمة واحدة على مستوى البلاد، مقرها دار القضاء العالي بالقاهرة، وهي أعلى محكمة في جمهورية مصر العربية، وتمثل قمة الهرم القضائي فيها، ومهمتها هي العمل على توحيد تطبيق القانون في المحاكم المصرية؛ فهي لا تعيد الفصل في المنازعات التي عرضت على المحاكم الأدنى منها، إنما تكتفي بمراقبة الأحكام التي صدرت من تلك المحاكم لمراقبة مدى اتفاقها مع القانون.
ولكن تستطيع محكمة النقض أن تفصل في المنازعة التي تُعرض أمامها، بصفتها محكمة موضوع لا محكمة قانون كما هو الأصل، إذا عُرض عليها النزاع للمرة الثانية، وذلك وفقًا للتعديل رقم 74 لسنة 2007 على المادة 39 من القانون رقم 57 لسنة 1959.
وتُعَدّ محكمة النقض طبقة قائمة بذاتها أعلى من محاكم الدرجة الأولى والمحاكم الاستئنافية، وليس الهدف من إنشائها جعل التقاضي على ثلاث درجات، فالتقاضي على درجتين فقط، ولهذا تقوم محكمة النقض على رأس المحاكم العادية.
1937 إلغاء المحاكم القنصلية
كان إلغاء المحاكم القنصلية في 1937 ، التي كانت القنصليات الأجنبية تنشئها لمحاكمة أبناء الجاليات التابعة لها.
وفي ذلك الوقت اتجهت الحكومات المصرية المتعاقبة إلى التفاوض مع الحكومات البريطانية المتتالية للحصول على الاستقلال، وفى 1936 توصل عدد من كبار الساسة المصريين بزعامة مصطفى النحاس إلى توقيع معاهدة، كان المفهوم وفقا للظروف الدولية آنذاك أنها خطوة مهمة على طريق الاستقلال التام.
وأهم ثمار هذه المعاهدة إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر. ففي المادتين 12، 13 من المعاهدة أقرت بريطانيا بسيادة مصر على جميع الأجانب المقيمين فيها وتعهدت بالعمل على مساعدة مصر في إلغاء الامتيازات الأجنبية التي كانت تشكل حائلا وعقبة أمام هذه السيادة . وفى 8 مايو 1937 عُقدت معاهدة مونتريه (بسويسرا) بين مصر والدول صاحبة الامتيازات، حيث تم الاتفاق على إلغاء الامتيازات التشريعية والمالية والقضائية.
1939 تأسيس نادى القضاة
اجتمع 59 من رجال القضاء والنيابة العامة في مقر محكمة استئناف مصر، فبراير 1939 واتفقوا على تأسيس «نادى القضاة» الذي حددوا هدفه بأنه لـ«توثيق رابطة الإخاء والتضامن وتسهيل سبل الاجتماع والتعارف بين جميع رجال القضاء الأهلي والمختلط»، بينما كان الهدف الحقيقي من إنشاء النادي هو العمل على استقلال القضاء تمهيدًا لإلغاء المحاكم المختلطة.
يقع نادي القضاة في قلب مدينة القاهرة، ولعب دورا سياسيا بارزا مؤخرا، يتقاطع أمام مدخله شارع عبد الخالق ثروت مع شارع شامبليون، ويجاوره من الشرق دار القضاء العالي مقر محكمة النقض المصرية ومحكمة استئناف القاهرة ومكتب النائب العام، ومن الشمال مقر نقابة الصحفيين، ومن بعدها مقر نقابة المحامين. والكائنة في ميدان الإسعاف ويبعد عن ميدان التحرير حوالى 700 متر.
1943 صدور أول قانون لاستقلال القضاء
صدر عام 1943 أول قانون لاستقلال القضاء حاملا رقم 66، عُرف هذا القانون باسم «قانون استقلال القضاء»، وقد أكدت مذكرته الإيضاحية أن «الاستقلال هو الأصل بالنسبة للقضاء»، وحذرت أن كل مساس بهذا الأصل «من شأنه أن يعبث بهيبة وجلال القضاء»، وأن كل تدخل في عمل القضاة من جانب أية سلطة من السلطتين الأخريين “يخل بميزان العدل ويقوض دعائم الحكم”.
وقد تشددت مواد قانون 1943 في توفير الضمانات لاستقلال القضاء إداريًا وماليًا، لدرجة أن تحديد مرتبات القضاة بجميع درجاتهم كان يتم وفقًا لجدول تم إلحاقه بالقانون منعًا للاستثناءات، مع التأكيد على عدم جواز تحديد راتب القاضي بصفة شخصية وعدم جواز معاملته بشكل استثنائي بأية صورة.
وعلى هذا الأساس، لم تشهد مصر الليبرالية – 1923-1952 – مذابح للقضاة أو محاولات ذات شأن من السلطة التنفيذية لاحتواء القضاة أو إخضاعهم. وهو ما دعا كثير من الكتاب والمؤرخين إلى التغني بالعصر الليبرالي كنموذج ينبغي أن يُحتذى في احترامه للقضاء وأحكامه.
1946 نشأة مجلس الدولة المصري
شهد 1946 نشأة مجلس الدولة المصري على غرار مجلس الدولة الفرنسى، ليختص بالفصل في المنازعات الإدارية بين الأفراد والجهات الحكومية.
ويمثل مجلس الدولة المصري أحد الأعمدة الثلاث التي تشكل السلطة القضائية في مصر، (المحكمة الدستورية العليا، محكمة النقض، مجلس الدولة). أنشئ على غرار مجلس الدولة الفرنسي، والقانون الحاكم له الآن هو القانون رقم 47 لسنة 1972 ويختص المجلس بالفصل في المنازعات الإدارية التي تثور بين الأفراد والجهات الحاكمة في الدولة، ويقوم بإلغاء القرارات الصادرة من الحكومة، فضلاً عن التعويض عنها، ويتكون من ثلاثة أقسام القسم القضائي وقسم الفتوى وقسم التشريع.
وبموجب أحكام دستور 2014، فان مجلس الدولة هو جهة قضائية مستقلة، يختص دون غيره بالفصل في المنازعات الإدارية، ومنازعات التنفيذ المتعلقة بجميع أحكامه، كما يختص بالفصل في الدعاوى والطعون التأديبية، ويتولى وحده الإفتاء في المسائل القانونية للجهات التي يحددها القانون، ومراجعة، وصياغة مشروعات القوانين والقرارات ذات الصفة التشريعية، ومراجعة مشروعات العقود التي تكون الدولة، أو إحدى الهيئات العامة طرفاً فيها، ويحدد القانون اختصاصاته الأخرى.
1949 إلغاء المحاكم المختلطة
ألغيت المحاكم المختلطة اعتبارًا من 15 أكتوبر 1949، بموجب القانون رقم 115 الصادر في 12 يوليو 1948 (5 رمضان 1367 هـ)، عمليًا تطبيقًا لمعاهدة مونترو التي تم إقرارها عام 1937، وولاية المحاكم الأهلية – المحاكم العادية – على منازعات الأجانب داخل البلاد، وإنشاء 4 محاكم استئناف في القاهرة والإسكندرية والمنصورة وأسيوط.
1951 إنشاء محكمة استئناف في طنطا
محاكم الاستئناف تعتبر من محاكم الدرجة الثانية في مصر؛ بمعنى أنه يحق للمحكوم عليه أن يتظلّم أمامها من الأحكام الصادرة عن محاكم الدرجة الأولى (سواء الابتدائية أو الجزئية)، فيُطرَح النزاع أمامها مرة أخرى لتفصل فيه بإصدار حكم نهائي. ومحاكم الاستئناف لا تنشأ إلا بقانون خاص يصدر بذلك.
1954 حل مجلس الدولة وإعادة تشكيله
ألغى رئيس مجلس الدولة الدكتور عبد الرازق السنهوري حينها، في 1954 بعض القرارات الحكومية، من بينها قرارات أصدرها الرئيس عبد الناصر، باعتباره رئيسًا للوزراء في عهد محمد نجيب، فيصدر عبد الناصر قرارًا بحل مجلس الدولة وإعادة تشكيله على أساس من قانون جديد لتنظيمه.
شارك السنهوري في وضع الدستور المصري بعد إلغاء دستور 1923م. سافر إلى ليبيا بعد استقلالها، حيث وضع لها قانونها المدني الذي صدر سنة 1953 م دون مقابل. حدث صدام بينه وبين الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1954م أقيل بسببه من مجلس الدولة، فاعتزل الحياة العامة حتى وفاته، وفرض عليه النظام الناصري عُزلة إجبارية حتى عام 1970 م. استطاع أثناء عزلته (من 1954-1970) إنجاز عدد من المؤلفات القانونية المهمة، كما وضع المقدمات الدستورية والقانونية لكل من مصر وليبيا والسودان والكويت والإمارات العربية المتحدة.
1958 إنشاء محاكم أمن الدولة “طوارئ”
شكلت محاكم أمن الدولة طبقا للقانون رقم 162 لسنة 1958 المعروف بقانون الطوارئ، و الذى أصدره الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وقت الوحدة مع سوريا، ثم تم إصدار قانون خاص بتشكيلها و نطاق اختصاصها، وهو القانون 105 لسنة 1980 بإنشاء محاكم أمن الدولة، وتم العمل بها حتى ألغاه الرئيس الأسبق حسنى مبارك بالقانون رقم 95 لسنة 2003، وتم نشره في الجريدة الرسمية في العدد الصادر رقم 25 بتاريخ 19 من يونيو من عام 2003 .
1966 إنشاء المحاكم العسكرية
أنشأت المحاكم العسكرية، في 1966، وهي محكمة تتألف من قضاة عسكريين وتحدد العقوبات على الأفراد العسكريين، لا تتطرق المحاكم العسكرية إلى محاكمة المدنيين، وإن خضع المدنيون للقضاء العسكري فيسمى هذا حكم عرفي؛ ولكن يجوز في حالة وجود احتلال عسكري أن تكون المحاكم العسكرية مسؤولة أيضا عن السكان المدنيين في الأراضي المحتلة.
بيان نادي القضاة في مارس 1968
وفي مارس 1968 أصدرت الجمعية العمومية لنادي القضاة بيانًا يحتوي مواقف سياسية على خلاف العادة، ومن بين ما جاء فيه: «صلابة الجبهة الداخليَّة تقتضى إزالة كافة المعوقات أمام حرية المواطنين، وتأمين الحرية الفردية لكل مواطن في الرأي، والكلمة، والاجتماع، وفي النقد والاقتراح، وكفالة الحريات لكل المواطنين وسيادة القانون»، فيرفض فريق من القُضاة خروج القُضاة على حيادية القضاء.
1969 المرشحون الأحرار
وفي مارس 1969 كانت هناك أزمة بين الفريق الذي يدعو لانخراط القضاة في العمل السياسي وفريق آخر عرف باسم «مرشحو السلطة» تتصاعد، وفاز فريق حق القضاة في إبداء الرأي السياسي، الذي أطلق على نفسه اسم «المرشحون الأحرار»، في انتخابات نادي القضاة تحت قيادة المستشار ممتاز نصار.
1969 إصدار عددًا مِن القوانين في شأن السلطة القضائية
وفي 31 أغسطس 1969 أصدر عبد الناصر عددًا مِن القوانين في شأن السلطة القضائية، وهي القوانين أرقام 81 و82 و83 و84.
ونص أول هذه القوانين على إنشاء المحكمة العليا، والثاني على إعادة تشكيل الهيئات القضائية مما أسفر عن عزل أكثر من مائتي قاض من بينهم رئيس محكمة النقض، والثالث على وضع نظام جديد لنادي القُضاة أصبح فيه أعضاء مجلس إدارته بالتعيين بحكم مناصبهم القضائية.
دستور 1971 وإنشاء المحكمة الدستورية
صدر دستور 1971 الذي نص على إنشاء المحكمة الدستورية العليا كبديل عن المحكمة العليا التي أنشأها عبد الناصر في 1969.