بين لعب الدنيا ومعنى الحياة (4)
من تراب الطريق (1003)
بين لعب الدنيا ومعنى الحياة (4)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 22/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
فافترض أحياء البشر دوام نوعهم ومعه بقاء أصوله واستحالة تغييرها ـــ فهم لم يجدوا ما يكذبهم حتى الآن في ذلك.. إذ لا تشاهَد البشرية إلاّ في نوعهم دون غيرهم من أنواع الحيوان.. وهي مقيدة بهذا الوصف وهذا الانحصار رغم ما يسايرها بين وقت وآخر من تطلع إلى متنفس آخر لم توفق بعد حتى الآن إلى الاهتداء إليه.. وربما يكون هذا الاهتداء في طريقه الذي لا يزال للآن في بداياته في محاولة الآدمي الاتصال الجاد المتزايد بالكون العظيم، والذي يواليه بالعناية مئات العلماء.. أولئك الباحثون المخاطرون بحياتهم في محاولة فهم ما أمكنهم وما هو في إمكانهم في مستقبل قريب أو بعيد من فهم هذا الكون الذي اتضح لنا الآن أنه لا حدود له يمكن أن تعرف، وأن ما نعرفه الآن وما قد نعرفه في المستقبل القريب هو على كثرته بالغ الضآلة ! وبعضنا اليوم قد يلوم بشريتنا على إعراضها منذ وجدت عن الالتفات إلى الكون، وربما كان في ذلك مغالاة لأن الآدميين في ماضيهم القديم الطويل لم يكونوا أهلاً لذلك الالتفات، وما صار عند علمائهم الآن ليس إلاّ نتيجة تطورات عديدة جدًّا استغرقت دهورًا حتى وصل هؤلاء إلى ذلك المستوى الذي وصلوا إليه !
* * *
كثرة البشر الكاثرة التي نلاحظها اليوم تجمعت فيما يبدو خلال سنين عددًا وعبر العديد جدًّا من التطورات وآثارها وما بقى منها حتى الآن مختلطاً باطلها بصحيحها نسبيًا وقديمها بجديدها عفويًا !
وربما كان لذلك الماضي الطويل بمعالمه وأخلاطه ـ أدواره ونتائجه فيما هي عليه أغلبيتنا الآن من التعلق الشديد بالأحلام والأوهام الماضية !
وما عرفه أهل العلم اليوم من بعض حقائق الكون فيه صدق وعناية، لكن لا يمكن الجزم بأن كل ما وصلوا إليه صحيح وصدق وصواب.. فالعلم والعلماء لا يزالون في بداية هذا الطريق الذي يحتاج المعرفة الكافية له بفرض الانكباب المستمر عليها إلى أزمنة وربما آماد !
لذلك لم يوقظ التفاتنا العلمي للكون العظيم في السنوات الأخيرة ـ إلاّ أهل العلم الجادون جدًّا.. أما الباقون من سواد العامة ومن الخاصة ـ فمتعلقون بدنياهم الحالية.. كثرتهم مستغرقة في إيثار وتفضيل المال والنفوذ والعاطفة والاقتدار والثروة والراحة والجمال والأبهة والسياحة والرياضة واللهو، ولا يفكرون بتاتًا في الإقلاع عن تمنى ذلك كله على الدوام.. فقد نقتنع بالواجب والأصح، ولكن دون أن نتغير تغيراً أساسياً بما كشفه أو يكشفه أهل العلم الجادون الذين أشرنا إليهم.. الغالب الظاهر أننا لن نفارق هذه الأهواء الجمة التي قواها وأكدها فينا توالى القرون بل الدهور.. إلاّ إذا أمكن لغالبية البشر أن ينتقلوا بسهولة ويسر إلى الفضاء الواسع في الكون سعيا للحصول على أرزاقه الجمة التي ليس لها حصر.. عندئذٍ قد تتغير معظم صفات الآدميين الحاضرة وماضيها معها هي وأعرافها وتقاليدها وسننها وعاداتها ومصدقاتها، ونترك نهائيًا أهواءنا وأنانيتنا الهائلة وانعكاساتها لدى كل منا صغيرًا وكبيرًا.. لا جدوى في أن نحاول بطريقة أو بأخرى علاج متاعب عالمنا الحالى الحاشد الكثيف ــ بإنقاص عدد أفراده ورده إلى ما كان عليه في ماضيه السابق قبل هذه الكثافة المتفاقمة.. ما نعانيه من مشاكل ليس مرده أو سببه فقط هذا التزايد السكانى الذي يجتاح العالم الثالث على وجه الخصوص، بل سببه الفعلى هو انعدام الاتزان بين الموارد والمصادر لدى الجماعات، وجهل القادة وأنانيتهم في العناية بذلك الاتزان الضرورى وسلامته ودوام تواجده في كل بلد كبيرًا وصغيرًا، فضلاً عن أنانية القادرين على الاستئثار وإهمال وغفلة واستسلام العامة إلى أن يوقظهم الجوع واليأس فيهبوا للاعتراض وربما الثورة !
إن بخل القلة الثرية بما معها دائم في كل جماعة.. وقد يحاول بعضهم تغطيته بالعطاء أو المساعدة أو المعونة وأحيانًا بالانتظام عليها.. هذا لأن البخل لاصق بالذات وبالخوف عليها وعلى من هم في حكمها من جهة القدرة، ولا يمتد عطاء هؤلاء إلى الآخرين قط..
إلاً صورة وشكلاً، أو إذعانًا لإكراه، أو تمهيدًا وانتظارًا لمزيد من الثراء أو لمزيد من النفوذ والسلطة.. دام ذلك من قديم الزمن بدوام الاعتياد والتسليم لدوام الميلاد والرحيل اللذين
لا يخطئهما قط موسر أو فقير.. إذ آمال ميلاد الأحياء تنسى رحيل الراحلين.. والنسيان من معالم الحىّ وحده دون الذي رحل وطواه فراق الدنيا ومن فيها !
والحضارات على اختلافها تسلم بالملكية وبالحقوق المتفرعة عنها، ولا تعترض على تملك البشر للعقار والمنقول وللأموال والحقوق الدنيوية.. يجرى هذا منذ أول عصور الحضارة.. نلفي كل فرد حريصًا الحرص كله على ما تملكه من دنياه منذ ذلك الماضي السحيق.. يحرص عليه حرصه على حياته.. فالملكية أشد الأغراض نفعًا ماديًا وأقربها إلى ذات المالك وحاجات ذاته، ويأمل صاحبها أن تقيه من العوز والتعرض للهلاك أو الفاقة له ولأولاده وأهله، ويتوسم فيها أمان معاشهم بقى هو أو لم يبق..