بين القول بالجبر، والقول بحرية الاختيار !

بين القول بالجبر، والقول بحرية الاختيار !

نشر بجريدة الشروق الخميس 25/2/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

لم يتوقف فلاسفة العصر الحديث عن مباحثهم في مسألة القدر، على تفاوت فيما بينهم ـ بين القول بالجبر، والقول بالحرية الإنسانية أو الاختيار، إلاّ أن الفلسفة لم تستأثر وحدها ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ بهذه المباحث في القرون الأخيرة، فدخلت مضمارها العلوم الطبيعية، ولا سيما علم النفس الذي يعتمد على هذه العلوم.

ولكن علم النفس على النهج الحديث ـ لم يحسم الخلاف بين الجبر وحرية الاختيار، وتفاوتت آراء علمائه بين القائلين بالمادة وحدها التي تفسير كافة التعاملات، وبين القائلين بالعقل.

وحلت الحتمية الحديثةDetermination  محل الجبرية القديمةFatalism في اصطلاح العلماء. ومن ثم أصبح القول بالحتمية الحديثة مناقضًا للقول بالجبرية في أقوال علماء الأديان، لأن الجبرية تحصر الإرادة كلها في الإله المعبود، أما الحتمية فهي على الأقل لا تستلزم وجود إله إلى جانب القوانين التي يفسرون بها إرادة الكون.

وقد تعاقبت الكشوف في ميادين العلوم الطبيعية، ولكل منها قانون يزعم أنه الأصلح،

ثم تقدمت الكشوف الذرية في أوائل القرن العشرين، وإذا بكشف منها يضرب الحتمية ضربةً قاصمة، ويفتح الباب واسعًا للقول بالحرية والاختيار.. وذلك هو الكشف الذي جاء به « نيلز بوهر » العالم الدنمركي الذي حصل على جائزة نوبل للعلوم عام 1922.

وجاء بعد « بوهر» ـ « أوجست هيزنبرج » الذي سمى مذهبه باللاحتمية، وبلغ من وثوق بعض العلماء بصحة هذه التجارب أن عالمًا كبيرًا ـ فيما يقول العقاد ـ كالسير « آرثر إدنجتون »، أعلن أن الأمر في هذه التجارب قلما يحتمل الخلاف، مقررًا أنه لا يعتقد بوجود انقسام ذي بال في رأى القائلين بهبوط مذهب الحتمية. وقد ترجمت للقارئ العربي بحثه عن « الواقع أو الحقيقة » من كتابه « طبيعة العالم المادي » ـ كتاب الهلال ـ العدد 720 ـ ديسمبر 2010.

ويرى الأستاذ العقاد أن الحتمية العلمية لا تثبت لقوانين المادة أنها تنفرد بتفسير كل أسرار الطبيعة، وكل حركة من حركات الأجسام.

وهنا يدع الأستاذ العقاد العلم والفلسفة في موقفهما الأخير من مسألة القدر ـ لينتقل إلى إجمال هذه المسألة كما عرضت في الأديان الكتابية بترتيب نزولها: اليهودية أو الموسوية والمسيحية والإسلام.

والكلام عن التقدير الإلهي قديم في الكتب اليهودية، وردت الإشارة إليه فيما يقول الأستاذ العقاد ـ من أول الأسفار المعتمدة إلى آخرها، ولكن على اختلاف في أساليب التقدير تبعًا لاختلاف الصورة التي كانوا يفرضونها للإله، أو باختلاف نصيبه عندهم من عظمة المشيئة، وعظمة القدرة، وعظمة الصفات.

وكانت الصورة الأولى للإله عندهم ـ صورة المالك المطلق الذي يريد أن يستأثر لنفسه بالمعرفة والخلود والسلطان، ويكره من الإنسان أن يتسامى ـ أو يتطاول ـ إلى منازعته في صفاته، فيبتليه بالعجز والحرمان والحد من حظوظه في النعمة والحياة.

فالنوع الإنساني، وفق هذا التصور ـ رعية متمردون يخضعون للقوة، وعلى هذه الصورة وقعت الخطايا الأولى التي جرت عليهم غضب الله وحرمتهم نعمة الخلود.

وتصويرًا لهذا الغضب، حين الأكل من شجرة المعرفة التي نهي الله عنها، جاء بسفر التكوين من قول الإله: « هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا الخير والشر والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد… » ( التكوين 3: 22 )

ومن هنا حاقت اللعنة بالإنسان لأنه أكل من الشجرة، وبالمرأة لأنها استمعت إلى غواية الحية، وبالحية لأنها سوّلت لهما هذا العصيان. ( التكوين 3: 14 ـ 19 ).

ولم يكن الإنسان هو المتمرد الوحيد على إرادة الله، فإن أبناء الله سكان السماء حسب تعبير التوراة، ويراد بهم الملائكة.. نظروا إلى بنات الناس فرأوا أنهن حسنات فاتخذوا منهن نساءً، وغضب الرب، وبعد ذلك أيضًا دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادًا وهؤلاء حسب تعبير التوراة هم الجبابرة المشهورون، فرأى الله ـ فيما تقول التوراة ـ أن الشر قد كثر في الأرض، فغضب الرب أنه من عمل الإنسان في الأرض، وقال: « أمحو من وجه الأرض الإنسان الذي خلقته ». ( سفر التكوين 6: 1ـ 8 )

ويمكن أن يقال على هذا، إن الخطيئة الكبرى ـ فيما يستخلص الأستاذ العقاد ـ هي طموح الإنسان إلى العلم والخلود اللذين استأثر بهما الله ( حسب التصوير التوراتى )، فالله على هذه الصورة مالك يكره من رعاياه أن ينفسوا عليه أسرار الحكم والبقاء، وهو يملك التقدير والتدبير، ولكن كما يملك الحاكم فرض الشرائع وفرض الجزاء والعقاب، وقد يراجع نفسه فيما قضاه فيبطله ويلغيه ويندم عليه ( طبقًا للنص التوراتى ).

وقد جاء في الأسفار اليهودية المتعددة كلام صريح عن تقسيم الحظوظ بين الآحاد وبين الشعوب، ومن ذلك تمييز بنى إسرائيل على غيرهم، وتمييز يعقوب على عيسو، وذرية يعقوب على ذرية عيسو، وكلاهما جنين في بطن أمه: « وتزاحم الولدان في بطنها، فقالت: « إن كان هكذا فلماذا أنا ؟ » فمضت تسأل الرب. فقال لها الرب في بطنك أمّتان، ومن أحشائك يفترق شعبان: شعب يقوى على شعب، وكبيرْ يُسْتَعْبد لصغير »( التكوين 25: 22، 23 ).

ومع الزمن، ترقى الوعاظ والأنبياء في فهم عظمة الله، فدعا « أشعيا » إلى عبادة الله الذي علم الأشياء منذ القدم.

بيد أن « القدر » لم يزل عند بنى إسرائيل مشيئة حاكم يأمر وينهي، ويرجع عمّا أمر به وقضاه، ولم يفهموا القدر قط على أنه نظام شامل للوجود محيط بالأكوان.

ففي سفر « أشعيا » يوصف الله بأنه جابل الإنسان، وينهي الإنسان عن مراجعته في قضائه، لأنه « خزف بين أخزاف الأرض. هل يقول الطين لجابله ماذا تصنع ؟.. أو يقول عملك ليس له يدان ؟! ».

ولكن هذا الخزف يجبل ويعاد جبله، ولا يستقر رأى الخزاف على حفظه أو تحطيمه، فيحطم بعد حفظ، ويحفظ بعد تحطيم، كما قال « أرميا » في سفره.

*    *    *

ويضيف الأستاذ العقاد أنه ربما حسن عند اليهود أن يتشبثوا بفهم القدر الإلهي على هذه الصورة، لأنهم علقوا آمالهم كلها في الخلاص على « إله » يتحيز لهم، ويتحول من الغضب إلى الرضا، لإنقاذهم من سطوة أعدائهم.. فأصروا من ثم على تصوير « القدر » لأنفسهم على هذه الصورة.

وقد أراحهم هذا الفهم من مشكلة « القضاء والقدر » عند أصحاب الديانات الأخرى، ولهذا سهل على رجل مثل « يوسفيوس » أن يقول: « إن الأمور كلها تجرى بقدر مقدور ولكنه لا ينتزع الإنسان من حريته في فعل ما يختار. لأن الله أيضًا شاء أن يمزج بين القدر ومشيئة الإنسان ليتاح له عمل الخير والشر كما يريد ».

وهذا بطبيعة الحال فحوى العقيدة الإسرائيلية من بدايتها الأولى، وهو غير المعنى الذي تصوره « فيلون » الفيلسوف الإسرائيلي الذي نشأ في الإسكندرية، واقتبس عقيدته من الفلسفة وأسرار الديانة المصرية، فإنه يعترف بالشر في الوجود، ولكنه يرجع به إلى امتزاج الروح بالمادة ومغالبة الحرية بضرورة « الهيولى » الجسدية.. فهو ينقل المسألة من صورة الحاكم والمحكوم إلى صورة المبدأين المختلفين، اللذين يقومان على اختلاف العقل والهيولى. ومهما يكن من تشابه بين الرأيين في النتيجة الظاهرة، فإن المصدر الذي يصدران عنه ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ على أبعد ما يكون المصدران المتعارضان !

زر الذهاب إلى الأعلى