بين القربى والقرابة والمحبة
من تراب الطريق (1129)
بين القربى والقرابة والمحبة
نشر بجريدة المال الاثنين 28/6/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
جرت عادة الناس، لا سيما في الشرق، على افتراض أن قرابة الدم وقرابة الأرحام ـ سبب في ذاته للمحبة، لا يحتاج إلى إثبات أو دليل.. وقد يفترضون أن غير الأقرباء غرباء لا يؤمَنون، أو لا يؤمن جانبهم، إلاَّ إذا قامت بينة قوية فعلية على قوة الآصرة الإنسانية وتحقق المحبة والمودة..
وبرغم وجود شواهد لا تتوقف على بطلان هذا الافتراض أو ذاك، إلاَّ أن الجميع يسلمون به، ولا يتفطنون إلى أن العداء الشديد قد يوجد بين الأقارب بل وبين الأشقاء من طول العشرة والالتصاق، وربما بسبب المقارنات والمنافسات التي تجرى في الواقع والخيال معًا.. وما قد ينشأ مع الزمن، أو نمو الاطماع، من إفساد العلاقات وحلول التنافر وربما العداوة محل محبة الأخوة ومحبة القربى.
بينما تورى الشواهد أيضًا، بأن الغريب غير المثقل بمثل هذا الزاد الكئيب، أقرب في الواقع لعقد صداقة فعلية قوية، يحرص على المحافظة عليها وصيانتها بأكثر مما يحرص الأهل المطمئنون إلى كفاية قرابة الدم أو الأرحام، وأن هذه القرابة في ذاتها تكفيهم وتغنيهم عن رعاية شجرة المودة والمحبة، والتي تحتاج دائمًا إلى هذا العناية.. وكم من شجرة باسقة تذبل من طول إهمالها !
ويبدو أن هذا الافتراض تقليد قديم بين جماعات العشائر والقبائل.. شكل مع مرور الزمن جزءًا من معتقداتها، كرس ذلك أنه كان لازمًا لترابط أبنائها في الدفاع وصد الغوائل عنها والمحافظة على بقائها وقوتها !
ومع تشعبات الحياة، ومنعطفاتها التي تتزايد مع الزمن، لم يعد منطقيًا افتراض المحبة لمجرد القرابة، ولا افتراض غياب المحبة وربما وجود العداوة من مجرد البعد أو الغرابة.. فقد اختفت العشائر والقبائل في معظم العالم من قرون، وحلت المجتمعات أو كادت محل تعصبات القرابات، وصارت المجتمعات تزداد اتساعًا وافتتاحًا باستمرار، وحلت « الأمة » محل العشائر والقبائل، وتطورت وارتقت الثقافات، بحيث لم يعد سائغًا في العقل افتراض عداوة أو عدم الأمان للمختلف في الجنسية أو الدين، إلاَّ فيمن أصابهم التعصب الضرير الذي كان أيضًا من منتجات العصر.
المحبة، والمودة، شجرة تنمو برعايتها والعناية بها والحرص عليها، ولذلك تنشأ الصداقات والمحبات الجديدة، وقد تذوى وتذبل بل وتتحول إلى التنافر والعداوة محبات القربى التي اطمأنت إلى أن افتراضها يغنى عن العناية بها. العلاقات الأسرية والاجتماعية علاقات حية بين أحياء، تحتاج كالشتلة إلى الري والتخصيب والعناية.. وإلى المشاركة والتساند بين الجانبين. يجب أن يكتتب فيها أطرافها باستمرار، لكي تظل حية مستمرة ومورقة تزداد وتزدهر كالروض الذي يتعهده أصحابه. المحبة والصداقة والمودة تستحق أن تُرعى كما ترعى الأشجار والزهور. إنها الوجه الطيب في الحياة.