بين الراحة والفراغ ! (2)

من تراب الطريق (1086)

بين الراحة والفراغ ! (2)

نشر بجريدة المال الثلاثاء 20/4/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

مشكلة الفراغ والفارغين تتضخم في عصرنا في المجتمعات الحرة وغير الحرة . وهى موجودة في مجتمعات الاقتصاد الموجه مثلما هي موجودة في مجتمعات السوق الحرة، مرد ذلك أن اليسار والموسرين في تضخم مستمر مع تزايد وتضخم الثروات، ومن مفارقات هذا التضخم في اليسار والثروات أنه ناتج عن تزايد احتياجات الآدميين باستمرار، واتساع مرافقهم تبعا للوازم المدنية وتزايد آلياتها وتقنياتها وتعدد نواتجها وتضاعف كفايتـها حجمًـا وعددًا ونـوعًا،, وتزايد مبتكرات اختراعاتها وبلايين سلعها وخدماتها مصحوبة برغبات البلايين في الاقتناء أو الاستعمال أو التغيير والتبديل والإضافة والاشتهاء والتطلع !

ظني أن الأمل بعيد جدًا في رد الآدميين إلى القصد والاعتدال، فقد بات الهوس سمة من سمات العصر، وتقلصت مساحة التعقل والإيمان بقيمة العمل المسئول وقيمة الراحة المسئولة المعقولة منه . ومع هذه وتلك لم يعد أحد يلتفت أو لا يلتفت بالقدر الكافي إلى خطورة “الفراغ” والتهافت عليه وسوء عاقبته في خواء النفس والروح وانعكاس مضاره على المجتمع بأسره حين يؤدى الفراغ إلى استنفاد الإنسانية ذاتها !

وربما وجد المتأمل تشابها ما من بعض الوجوه بين عصرنا بما فيه من ازدحام وسرعة تغير وتبدل وتفكك في العلاقات الإنسانية وخلوها من العمق والإخلاص وتعرضها لانقسامات هائلة متزايدة بين فئات الناس ـ وبين الحضارة الرومانية اليونانية في القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد . وربما تذكرنا كيف عاجلت المقادير واقع ومستقبل تلك الحضارة الرومانية اليونانية بالإلغاء والمحو، فتسلطت عليها همجية وقسوة القبائل الجرمانية، وعارضتها بدائيات وحماسة وتقشف العقيدة المسيحية في قرونها الأولى،, فقضت كل منهما ـ باختلاف دوافعها وآلياتها ـ على معظم معالم تلك الحضارة من علوم وفنون وآداب وتراث وأمجاد، وأحالت ذلك إلى أضاليل شياطين ومزاعم وثنية خبيثة يجب تدميرها وتطهير حياة الإنسان منها في كل زمان ومكان، فرجع الإنسان بذلك أكثر من ألف سنة إلى الخلف، واحتاج إلى ألف سنة أخرى ليجد طريقه إلى الحضارة مرة أخرى، وسلخ بعد ذلك نحو خمسة قرون أخرى في تكوين الحضارة المعاصرة !

لم يتصور أهل الحضارة الرومانية اليونانية، في حال تدهورها، أنها يمكن أن تبيد، كما لم يتصور المصريون القدماء أن حضارتهم الفرعونية يمكن أن تندثر نهائيًّا ومعها لغتهم فلا يبقى من ذلك إلا آثار الأبنية والمعابد والأهرامات والتماثيل والمومياوات، لم يتخيل أهل تلك الحضارات، وهم يعيشونها بعقلياتها وأحلامها، أنها تتحلل وأنه قد أخذ يتخللها استحكام الفساد والتمزق وتسيد « الفراغ » و« الفارغين » على كل شيء وعلى جميع المرافق عامة وخاصة !

انتشار الفراغ والفارغين، يطرد الجد والجادين من ميادين الأعمال والأشغال، ويقلص بزحف سلبياته مساحة العمل والعاملين، ويفسح قاصدًا وغير قاصدٍ المجال لآليات الجنوح والرشوة والغش والفساد والنهب والسلب والقنص والإيذاء، تتقاسمها وتتنازعها تجمعات وعصابات وزمر دفعها « الفراغ » و« الخواء » إلى طلب المغانم والتسابق إليها بغير سبلها النظيفة التي تنتظم بها وعليها سبل الحياة ومدارج الارتقاء !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى