بر الوالدين

بقلم: الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين
فى دوحة الإسلام (95)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 1/12/2021
ــــ
بر الوالدين والقيام بواجبهما ، فرع على رعاية الفرد فى الإسلام .
والوصايا الربانية ببر الوالدين والمعرفة بفضلهما والإحسان إليهما متكررة فـى القرآن المجيد ببيانه الرائع الجاذب .. لا تكاد الآيات فى سورة لقمان تورد من وصايـا لقمان لابنه تحذيره من الشرك بالله ، وتعقب على لسانه وهو يعظه : « إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ » ( لقمان 13 ) ، حتى تقفى بالوصية الإلهية بالوالدين ، ولتقرن واجب الشكر إليهما بشكر الله عز وجل ، فتورد الآيات على لسان رب العزة : « وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ » ( لقمان 14 )
هذه المزاوجة بين شكر الله سبحانه وتعالى والشكر إلى الوالدين ، مزاوجة عميقة الدلالة تؤكد على أن واجب الشكر إليهما معطوف على شكر الخالق جل شأنه .. تستحضر فى إلماح لا يفوت أنه سبحانه وتعالى قد جعلهما جسر وجود من أرادت قدرة الله خلقه من الذرية .. فكـان الشكـر إليهما معطوفا بهذا البيان اللافت على شكر الخالق عز وجل .
هذا العرفان ـ بهذا العطف والإقران ـ متكرر البيان فى السنة النبوية الشريفة التى تكـررت فيهـا الوصايا بالوالدين منبهـة إلى صلة رضاهما أو سخطهما برضا الحق تبارك وتعالى وسخطه .. ففى الحديث « رضا الرب فى رضا الوالدين ، وسخطـه فى سخطهما »..
عندما جـاءه عليه الصلاة والسلام رجل يسأله عن حق الوالدين أجابه : « هما جنتك ونارك » .. منوهـًا إلى أن الجنة فى رضاهما عنه ، والنار جزاء سخطهما ـ إذا سخطا ـ عليه .. لذلك كان عقوقهمـا تاليًا مباشرةً للإشـراك بالله عـز وجـل .. يقـول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : « ألا أنبئك بأكبر الكبائر ؟ : الإشراك بالله وعقوق الوالدين » .. « ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ( قالها أولاً ) ، ومدمن الخمر ، والمنّان » ..
ذهب إليه عليه الصلاة والسلام سائل يتساءل : هل بقى شىء يبر به والديه بعد موتهما ؟ فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : « نعم . خصال أربع : الدعاء لهما والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم . » .. يروى عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كـان يقـول : « من سره أن يمد الله له فى عمره ويزاد له فى رزقه فليبر والديه وليصل رحمه » .
لم تدع آيات سورة لقمان وصاياها الربانية بالوالدين ، قبل أن تورد وصية بالغة العمق والقوة والدلالة على كمال وتمام الرعاية .. فلا تعفى منها ولا تسقط واجب المعروف للوالدين جنوح أحدهما أو كليهما حتى وإن بلغ حد الإشراك والحض عليه .. فـى بيان جلىّ قاطـع تقول الآية الحكيمة : « وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا » ( لقمان 15 ) .
أجل لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق ، ومع ذلك حرص القرآن الكريم على أن يعطف على عدم طاعة الوالدين فى الإشراك بالله ، بتوصية رحيمة وآمرة بأن ذلك لا يعفى من وجوب مصاحبتهما فى الدنيا معروفًا .. لا شىء فى الإسلام يبيح عقوق الوالدين ..
روى عن نبى البرّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : « ولا تعق والديك ، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك » .. تنهى السنة النبوية الشريفة عن كل ما قد يؤدى ولو بطريق غير مباشر إلى الإساءة للوالدين ، فتوصى بعفة اللسان وكفه عن سب الآخرين الذى يفتح أبواب تبادل السباب ولعن الوالدين ، وهو من أكبر الكبائر فيمـا يلفت إليه الحديث الشريف .
احترام مقام الوالدين ، والحرص على برهما ورضائهما ، ملمح إسلامى فياض المعانى غامر البر والرحمة .. حين ذهب أحد المسلمين يبشر رسول القرآن عليه السلام بأنه جاءه يبايع على الهجرة ، وعرف منه أنه قد ترك والديه يبكيـان على فراقه إياهما ، جعـل عليه السلام يقول له فيما رواه ابن عمر رضى الله عنهما : « ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما » .
رسالة المسجد فى الإسلام
للمسجد رسالة عظيمة فى الإسلام ، لا للإيواء إليه بالأسلحة والمفرقعات للقيام بأعمال الإرهاب والقتل وترويع الآمنين ، وإنما لإقامة الصلاة وذكر الله وعبادته .
رسالة المسجد رسالة سامية ، عنها يقول الحق تبارك وتعالى فى كتابه العزيز : « فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ » (النور 36) .
هذا الرفع ليس فقط للدعائم والجدران ، إنما هو للمساحات الطهور التى خُصصت للركوع والسجود ، ولا يدخلها أو يتواجد فيها إلاَّ الطهورون المتوضئون ، فهى مهاد لمعراج الروح الذى ينقل الإنسان من مآرب الدنيا القريبة ، إلى مناجاة الله وذكرة وتسبيحه وتمجيده .
روى بإسناده ، أن الهادى البشير عليه الصلاة والسلام ، دخل يومًا المسجد ، فوجد رجلاً جالسًا من الأنصار يقال له أبو إمامة .
فسأله عليه الصلاة والسلام :
« يا أبا أمامة ، مالى أراك جالسًا فى المسجد فى غير وقت الصلاة ؟! .
قال : هموم لزمتنى وديون يا رسول الله .
فقال له عليه الصلاة والسلام :
« ألا أعلمك كلمات ! إذا قلتهن أذهب الله عنك همك ، وقضى دينك ؟ »
قال الأنصارى : بلى يا رسول الله .
قال الرحمة المهداة : قل إذا أصبحت وأمسيت : « اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال » .
صدق رسول الله
وإذا كان الرسول قد استغرب وجود الرجل فى المسجد فى غير وقت صلاة فإنه عزم على المسلمين كافة أن يثوبوا إلى المسجد وقت الصلاة وقال : إن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ ـ المنفرد ـ بسبع وعشرين درجة .
قال عبد الله بن مسعود : لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلاَّ منافق قد علم نفاقه أو مريض ! إن كان المريض ليمشى بين الرجلين حتى يأتى الصلاة ! وقال :
إن رسول الله علمنا سنن الهدى ، وإن سنن الهدى الصلاة فى المسجد الذى يؤذن فيه قال عبد الله وما منكم من أحد إلاَّ وله مسجد فى بيته ، ولو صليتم فى بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم .
وقيل فى صلاة الجماعة ، إنها من رسالة المسجد فى الإسلام ، يحتشد فيها المؤمنون على صعيد واحد لأداء الصلاة ، وليتعارفوا ويتحابوا ، ويتعاونوا على البر والتقوى لا على الاثم والعدوان ، وليذكروا الله ، ولذكر الله أكبر .
وهذا التلاقى المنشود ليس حشر أجساد ، ولا للتخفى لارتكاب الأعمال الإرهابية ، إنما هو اندماج الفرد فى المجتمع على أساس من الحب وطلب مرضاة الله ، وعلى كل مسلم أن يرتفع إلى هذا المستوى ، وأن يقتل نوازع الأنانية إذا حدثته بالعزلة لأمر ما ، فقد جاء فى الحديث ، « ثلاث لا يغل عليهن قلب إمرئ مؤمن ـــ أى لا يحقد أو يخون ـــ إخلاص العمل لله ، والمناصحة لأئمة المسلمين ، ولزوم جماعتهم فإن دعاءهم محيط من ورائهم » .
ومن رسالة المسجد خلق نظام الصف ، وتعويد المسلمين عليه .
عن أبى مسعود « كان رسول الله يمسح مناكبنا فى الصلاة ويقول : استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ، ليلنى منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم » .
وفى رواية « اقيموا الصفوف ، وحاذوا بين المناكـب ، وسـدوا الخلل ولينـوا بأيدى إخوانكم ولا ترزوا فرجات الشيطان ، ومن وصل صفًا وصله الله ، ومن قطعه قطعه الله » !!
ومن رسالة المسجد رفع المستوى الثقافى للأمة ، وذلك عن طريقين : الأول تدبر ما يتلى من القرآن فى الصلوات الجهرية وخطب الجمعة ، والقرآن كتاب يتحدث فى العقائد والعبادات والاخلاق والقوانين والشئون المحلية والدولية ويصف الكون ويسرد التواريخ مثلما يتحدث عن الله وصفاته وحقوقه سواء بسواء .
وقد كان ذلك المصدر الأول للمعرفة عند السلف ، إذ أن سليقتهم اللغوية أمكنتهم من الاستمداد المباشر من آيات الله والحق أن الذين انصتوا للرسول الكريم وهو يتلو كتابه بلغوا شأوًا لا يضارع من السمو الفكرى والتربوى ، وأن يكونوا مشاعل هدى فى أرجاء الأرض وينقلوها من الظلمات إلى النور .
ومن طرق تثقيف الأمة ، الدروس التى تُلقى فى رحاب المسجد ، وتتناول جميع العلوم ، بل وكان الشعر يُلقى بالمسجد ، ويستمع الصحابة إلى حسان بن ثابت وهو ينشد قصائده فيه .
ومن المعروف أن المدارس الفقهية الكبرى كانت فى المساجد وأن الأئمة العظام كانوا يلقون تلامذتهم فيها ، والفقه الإسلامى يحتوى على كل ما يهم البشرية من المهد إلى اللحد .
هذه هى رسالة المسجد فى الإسلام ، والعمار الذى يبث فيه لرفع اسم الله ، وأداء الصلوات والتعبد ، والإقبال على التعلم بما ينفع الإنسان والإنسانية .
أنفع العمل أن تغيب فيه عن الناس بالإخلاص ، وعن نفسك بشهود المنّة ، فلا ترى فيه نفسك ولا ترى فيه الخلق ، ولا ترى إلاَّ الله .
زر الذهاب إلى الأعلى