الوعي ومفرزات الحضارة بين المواطن المقيم، والمواطن المهاجر

الوعي ومفرزات الحضارة بين المواطن المقيم، والمواطن المهاجر

نشر بمجلة الدبلوماسي عدد يوليو ـ أغسطس 2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

في حياتنا الواعية العادية ـ يشعر كل منا وباستمرار ـ بذاته كذات فاعلة مالكة متصرفة مريدة مختارة . وهذا هو طابع عالم اليقظة لكل منا.. هذا العالم الذي يتميز عن النوم وعن الأحلام التي نراها في المنام.. يتميز بالشعور المستمر بالوعي المريد المختار المتصرف المالك الذي يُبنى ويرتكز عليه كل ما نسميه بالواقع.

فعالمنا الواقعي هو عالم الذات فيه هي أهم شيء في عين نفسها، لأن كل شيء آخر خلافها هو بالنسبة لها موضوع لنشاط وعيها المريد المختار المتصرف المالك ـ مباشرة أو بطريـق غير مباشر .

وكما نقول إن الأمة مصدر السلطات، فإن هذا أكثر واقعية وتعبيرا عن الحقيقة في عالم الذات.. ففي هذا العالم ـ الذات هي فعلا مصدر السلطات ومقر السيادة.. تضرب عملة تعاملها باسمها وتحسب كافة المكاسب والخسائر لها وعليها.. ويمسك الوعي بحساب ذلك كله ابتداء وافتتاحا وانتهاء وإغلاقاً.. فوعى الذات هو المحاسِب والمحاسَب.. تقيده الذات إن قيدته لنفسها دائنة، ومدينة إزاء نفسها !

ووعى الآدمي هو مرآته للحياة، ماضيها وحاضرها ومستقبلها. هذا الوعي تختلف سعته وحجمه على قدر إدراكه لما هو عليه ومعه في ماضيه وحاضره وتصوره واستشرافه لما سيحدث أو يتمنى أو يخشى حدوثه.. هذا الوعي لا حدّ لنموّه كما لا حدّ لضيقه أو ضموره.. يبدأ في كل آدمي عن جهالة تامة لأنه يولد لوالدين أو محيطين محكوم كل منهما بنسبة وعيه، وينمو منذ الميلاد ومع أطوار العمر وما يصادف الآدمي فيها، ثم ينتهي بانتهاء حياته على قدر

ما بلغه في رحلتها من النمو والاتساع أو الضيق أو الضمور.

يجب أن نجل كل الإجلال ما بين أيدينا من المعارف والعلوم وخاصة العلوم الوضعية.. هذه العلوم التي تقربنا بقدر استطاعتها من معرفة الكون الطبيعي، لكنها ـ فيما يبدو ـ تغمرنا غمراً شديداً وتلفتنا إليه وحده التفاتا ينسينا أنفسنا كآدميين.. فنحن لا نصبح أكثر آدمية ومعرفة بأنفسنا إذا أهملنا محاولة معرفة ماذا نكون ؟ وبماذا نختلف حقيقة عن باقي مكونات الكون الطبيعي ؟ وكيف حدث هذا الاختلاف ؟ وماهي معقباته الحاصلة والمحتملة ؟!

إننا نخدع أنفسنا دائما بأننا وحدنا الذين نعى ونعرف على هذه الأرض، ونخـدع أنفسنا حين نتصـور أننا نعـرف بالضرورة أكثر ممن سبقونا من جنسنا.. وهـذا التصـور تصور صحيح جزئيا !.. ربما لو كان معنا على هذا الكوكب جنس آخر يعي ويعرف لهتف للإنسان ورفع رايته، ولكن من الذي يهتف لنا وقد تقطعت الروابط والصلات الآدمية والإنسانية وتضاءل الإحساس بهذه الروابط لدى جميع الناس، فلم يعد يهم أحدا تقدم وتطور العلوم والمعارف، ولم تعد إنجازات العقل تعنى إلا من وفقوا إليها من الباحثين والعلماء الذين يعكفون في صمت لمعالجة هموم البشر !

ويبدو أن الرجاء تطلع ملازم لحياة الآدمي الواعية.. لأن حياته تمتد امتداداً يستهدف الوعي.. له دائما أحوال أفضل في هذه الدنيا أو في حياة أخرى عند من يرجو قيامه بعد الموت.. حتى المنتحر ينتحر على أمل الراحة من حياة شقية تعسة لم يعد يحتملها، والمريض بمرض قاتل

لا ينقطع أمله كلية في تكذيب يأس اليائسين من شفائه، والمحكوم عليه بالإعدام لديه أمل في النجاة من الموت في آخر لحظة، والفدائي في إقدامه على الموت الراجح أو المؤكد يأمل في المجد وحسن الأحدوثة.. لا يفقد الآدمي كل رجاء في كل اتجاه إلا إذا أيقن أنه قد سدت أمامه كل الأبواب.. عندئذ يمزقه اليأس تماما ما لم يكن معه بقية من دين!

الاختلافات والفروق فيما ينتجه الفرد الآدمي، ليس مردها فقط إلى نقص أو زيادة في معارفه وخبراته، بل مردها الأهم إلى ما تعكسه من حقيقة حياته، وتورى بأنه كائن حي تختلف كل لحظة من لحظات حياته عن الأخرى اختلافا لا يدركه هو، ولكنه يشعر به ويتحمله ويحمل عواقبه مخلوطة في شعوره.. فهو وحياته مركب من التغير والاختلاف المتواصل، وليس خليطا من الثوابت والجوامد.. فلا يمكن للإنسان مهمـا حرص وانضبط أن يكون محض آلة صماء لا تحس ولا تشعر ولا تتغير !

إن الآدميين مهما تطوروا وتعلموا وتقدموا وعرفوا، لا يستطيعون أن ينتجوا مباشرة

إلا ما تتعاون عقولهم وأبدانهم على إنتاجه.. هذا الإنتاج يخرج حاملاً حتماً ـ طابع بداهتهم ومهاراتهم ومواهبهم وإلهاماتهم، مثلما يحمل معايب وأخطاء وضلالات وأوهـام عقولهم وأبدانهم وقت الإنتاج !

والمواطن إذا هاجر فإنه ينفصل في البداية عن واقعه ومحيطه الذي عاش فيه، فإذا استقر في مهجره، أصبح مهجره هو واقعه الجديد، ويخرج بلده الأصلي خارج إطار هذا الواقع، وهو حين يذكره ويحنّ إليه إنما يذكره كصورة ثابتة، اختفت منها الأجزاء التي تتعلق بعواطفه وأفكاره وما كان يطمع فيه أو يكابده ويتوق للخلاص منه قبل الهجرة، لكنه في مهجره يعانى واعيا أو غير واع قدراً من المعاناة من محدودية وانحصار واقعه الحالي في واقعه الجديد برغم اكتسابه جنسية المهجر، لأن أشياء كثيرة حوله لا تكف عن تذكيره بأنه غريب على محيط وعلى قوم لا يزالون بالنسبة له غرباء، ولهذا يلوذ عادة بأمثاله من المهاجرين من بنى وطنه أو من أبناء جنسه ليحس معهم بالألفة والأنس في وحشة المهجر الذي لم يتكيف فيه بعد !

الاختلاف بين المواطن في المهجر وبين المواطن المقيم، اختلاف بين واقعين.. فالمهاجر ينظر إلى بلده الأصلي من بُعد مكاني ونفسي وفكري مليء بالافتراضات وإن كان حافلا بالإخلاص والمحبة وحسن الاستعداد والنوايا، والمواطن المقيم يرى المهاجر من بُعدٍ أشد حتى وإن كان من بلده أو ابنه أو أخيه أو قريبه أو صديقه، لأنه مشغول بواقعه الغامر الذي يستغرق اهتمامه، ولأن مصلحة المهاجر دائما مصلحة فردية معنية بذاته ومن في حكم ذاته، وليست مصلحة قومية ذات أصداء قريبة وبعيدة يشترك فيها بشكل أو بآخر كل مواطن صالح أيا كان، وفي أى بلد..

كما أنه يستحيل على المواطن المقيم أن يحيط بظروف المهاجر ويعرف من قرب متاعبه ويحس بمخاوفه وهمومه ومصادرها التي لا يمكن أن يدرى بها إلا المعايش الذي مرّ بأمثالها وكابد دروسها وسلّمت أعماقه بوجـودها وبضرورة احترام أعرافها وأحكامها !

إن أساس الحضارة الحالية النفسي هو هو أساس الحضارات الماضية، والعمران الحالي يتعرض لنفس التفكك الذي تعرّض له العمران البشرى فيما مضى.. فالإنسان الآن ليس أقل من آبائه اشتهاءً واستعجالاً للراحة واحتفالاً بميوله البدائية وفراراً من الشعور بالمسئولية الشخصية وشغفاً بالبطالة والفراغ في ضيقه بالكدح.. لا يدرك في إخلاده إلى هذا الفراغ أنه لو نجح أغلب الناس في الإقلاع عن ذلك ومقاومته واعتباره نقصاً وعيباً وطفولة وصغاراً ـ لوجدت حضارتنا الحالية نفسها على الطريق الصحيح الدائم، الذي ينتقل بها من تقدم إلى تقدم أكبر وازدهار متتابع ليس لتجدده نهاية !

ونحن نعيش أغلب الوقت دون أن نهتم بالحكم على حياتنا وقيمتها ـ تحت فرض أنها قيّمة على كل حال مهما كانت.. وهذا قد يفسر إنفاقنا لها كيفما اتفق بلا حساب ولا عناية وترك الآخرين يدلفونها إلى إنفاقها بلا عناية ولا احتمال.. كأن فكرة الجدوى غير أصيلة بالنسبة للحياة.. ولكن الخلط بين الجدوى وبين العناية غير معقول بالنسبة للحياة.. فالحياة تستلزم العناية بها.. وإذا كانت الجدوى سؤالاً لا تسأله الحياة الطبيعية، وإنما يسأله عقل الإنسان فقط ـ فإن العناية تتطلبها الحياة والطبيعة في أدق الأشياء وأكبرها !

لم يقلل انتشار العلم الوضعي وآثاره التي لا تحصى في الاختيارات والأذواق والأعمار والأجناس ــــ من المبالغة في السطحية والخفة في حياة البشر منذ النصف الأخير من القرن الماضي.. بل ضاعف هذه الخفة وهذه السطحية إلى حدود قل فيها الأمان مع الأنفس والمرافق والأموال.. يجرى ذلك في المجتمعات كلها.. ما تسمى منها بالرقى والتقدم والتحضر، وما يدعى منها أنه في طريقه إلى ذلك، وما يوصف بأنه متأخر متخلف.. فلم يعد عالمنا كله يشعر إلاّ بالتشاؤم والقلق في كل مكان.. كأنه قد فقد اتزانه إلى غير رجعة.. ولم يعد يجد القادرين على إعادته إلى أمانه واتزانه !!!

بخلاف سائر المخلوقات الحية على المسكونة الأرضية، فإن الآدمي وحده هو صاحب الأغراض التي لا تنتهي، ولا تنحصر، وليس لها ثبات.. ولذا فإن أنماط سلوكيات الآدميين وصورها في تغير دائب، ملحوظ هذا في الجيل الواحد، وملحوظ أكثر في مقارنة الأجيال المتعاقبة بعضها ببعض . وهذا يجعل ثبات أحوالهم وعاداتهم وأعرافهم وقوانينهم نسبيا على الدوام.. يتحرك ببطء أو بتسارع مع اشتداد حركة الأفكار والأذواق وتقلب ظروف الزمان والمكان، ناهيك بتعاقب الأجيال !

في زماننا نرى الآلاف في المدارس والمعاهد يطلبون العلم والعلوم والآداب والفنون، ومنهم من ينال الشهادات الرفيعة والألقاب العلمية والدينية والفنية، ولكنهم لا ينالون « الموهبة » لأنها سجية مطبوعة قد تنمى بالدربة والممارسة، ولكنها لا تخلق ولا تكتسب مهما أنفق الدارس في قاعات العلم والفن والدراسة .

إذا توارت المواهب أو أزيحت، جفت حياة الناس وتزايدت مشاقهم في مجتمع يستغرقهم بعاديات الأمور ويشغلهم بطعامهم وسكنهم وصحتهم وعملهم وأمنهم.. مهددين في ذلك بمغامرات ومجازفات المستغلين حملة المراتب أو ” المواهب الرسمية ” الزائفة !.. الذين بيدهم مرافق الدولة يديرونها بما شاءوا بلا فائض إحساس بل بلا إحسـاس وبلا شعور بالمسئولية وبلا محاسبة.. لا يردهم عما اعتادوا إلاّ الخوف إن كان له سبيل !!

هل تأمل أحد في آيات الحياة الولاَّدة من حولنا !!.. لو تأملنا بذور الجوافة والتين والعنب ولب الخيار والقرع والبطيخ والشمام وحب الحبوب والبقول ـ لرأينا فيها دليلا ماثلا أمام كل عين على سخاء الحياة وغناها الهائل، وعلى إصرارها الذي لا يكاد يُغلب…

ومن يتأمل يرى أن الكائن الحى لا يكف قط عن محاولة الإبذار.. تهيأت تلك اللحظة أو لم تتهيأ.. تحقق التوالد بالإبذار أو بغيره ـ أو لم يتحقق.. لا يستغنى الكائن قط عن هذا الإبذار وما في حكمه.. لأن الحياة دءوبة وفي صيرورة لا تعرف اليأس، وإصرارها أبدا

لا ينفد.. وليس لها عمر ببداية ونهاية كأعمار الكائنات.. وهي في ديمومتها واستمرارها وإصرارها تتعامل مع الأحداث والأشياء ومدى روابطها وكيفيتها ـ على أساس لا تبديل له أنها هي الباقية والأحداث والأشياء غير دائمة !

من اللافت الموجع أننا مع استسلامنا بلا عقل للتناسل في حـد ذاته، دون أى التفات لمقتضيات القدرة على التربية والتنشئة الصالحة، فإننا أيضا نعطى ظهورنا للإنتاج، لأننا نعطى ظهورنا للعمل، وآية ذلك أنه لا قيمة لدينا لوقت !

في المجتمعات المتحضرة يقدسون « الراحة »، لأنهـم يقدســون « العمل ».. فالراحة في استخدامها الصحيح تقابل عملاً وجهداً منتجاً مبذولاً، وبغير ذلك تكون الراحة فراغاً ومضيعة للوقت وتغليقاً لكل أبواب الإنتاج، فكيف إذن يكون التناسل والتكاثر، بينما الإنتاج يتراجع بتراجع العمل وقيمة الوقت حتى إن الإجازات تصل لدينا في المرة الواحدة إلى أسبوع، والمحصلة لهذه الحماقة هي تزايد الفقر لا القوة، وشيوع البؤس والتعاسة لا الرضا أو السعادة..

يبدو لبعضنا أحياناً ـــ أن الحياة كلها ذات أغوار سحيقة جداً خشنة جاهلة في نظرنـا، وأنها ذات سماوات رقيقة لا حد لرقتها وسموها، وأن الأحياء لا تعيش إلاَّ على الأحياء.. نباتها وحيوانها وشجرها . وخلال ذلك الذي نظنه توحشاً وقضماً وهدماً واختلاساً ونهباً وغزواً وافتراساً، نبصر معالم كثيرة لا تحد لحنان وعطف وفهم متزايد وفطنة نامية واحتمال ورحمة وعفو لا يعرف الحدود . وهذا الخليط دائم إلى اليوم، لكنـه يتغير كثافة بين الخير والشر في دائرتى المكان والزمان، فيغلب خيره حيناً، ويسود شره أحيانا !. وربما كان هذا الخلط المستمر هو الذي عوق وعطل انتشار الإنسانية بين الآدميين وأخَّر تخلصها من قسوة الأنانية وجشعها وغرورها وصلابتها في تفضيل الذات ومن هو في حكمها على كل غاية أو غرض غيرها !

زر الذهاب إلى الأعلى