الوساطة كوسيلة لتسوية المنازعات
بقلم الدكتور/ محمد طرفاوى محمد
يعتبر الاستثمار من أهم الأسس التي تقوم عليها الدول في الوقت الحاضر، وحيث إن اختيار الدول المناسبة للاستثمار يقوم بالأساس على دراسة تشريعات تلك الدول ومدى تناسبها والمحتوى الدولي للتشريع، ويهدف ذلك لرغبة المستثمر في معرفة أنسب الدول تشريعياً لجذب الاستثمار، فلا يعقل أن يقبل مستثمر الاستثمار في دولة يستمر فيها النزاع لسنوات ويتعطل فيها رأس المال العامل.
لقد أصبح اللجوء للوسائل البديلة لحل النزاعات في الوقت الحاضر من أهم الوسائل التي تساعد على حذب الاستثمار، لكون تلك الوسائل تساعد على إنهاء النزاعات بطريقة سريعة، وبناء عليه ظهرت الوسائل البديلة لتسوية المنازعات مثل التحكيم والتفاوض والمساعي الحمديدة والتوفيق والوساطة.
اهتمت الأمم المتحدة بالوساطة كطريق لتسوية المنازعات لكونها من أسرع وأفضل الطرق لإنهاء المنازعات، وكنتيجة لذلك صدر القانون النموذجي لقواعد الوساطة سنة 2018 وحث الدول على تشريع الوساطة كوسيلة لتسوية المنازعات لتشجيع الاستثمار.
قامت بعض الدول العربية بوضع تشريع مستقل للوساطة في إطار تشجيع الاستثمار، منها دولة الأردن وقد صدر فيها القانون رقم 12 لسنة 2006 ودولة الإمارات العربية المتحدة وقد صدر فيها القانون رقم 17 لسنة 2016 والمعدل بالقانون رقم 5 لسنة 2021 وكذلك دولة قطر والتي أصدرت القانون رقم 20 لسنة 2021 .
حاولت مصر السير في هذا الركب وقامت اللجنة التشريعية بمجلس النواب سنة 2018 بمناقشة مشروع قانون الوساطة المصري وقد تم اعتماده إلا أنه مازال حبيس الأدراج رغم الموافقة عليه وهو ما نراه أمراً غريباً من المشرع المصري.
تُعرف الوساطة بأنها اتفاق بين الأطراف على إسناد مهمة التفاوض بينهما لطرف ثالث محايد وبشكل سري ليقوم بمساعدة الأطراف بطريقة مرنة للوصول إلى تسوية النزاع وهو عادةً رضائي إلا أنه من الممكن أن يكون قضائياً أو وارداً بنص في القانون، يُلزم الأطراف باللجوء إليه وهو طريق لتسوية النزاع يقوم فيه الوسيط بالمساعدة في عملية التفاوض دون إبداء رأيه الشخصي في النزاع ولا يصدر توصيات أو تقارير لكون الأطراف هم المسئولين عن تحديد طبيعة وشكل اتفاق التسوية النهائي الناتج عن الوساطة لكون الوسيط حيادى، وتقوم مهمته على تسهيل عملية التفاوض من خلال التواصل مع أطراف النزاع سواءً كان تعاقدياً أو استند لأي مصدر آخر، وعقد اجتماعات مشتركة ومنفردة بأطرافه لعرض أفكار حول التفاوض لحل النزاع.
تتعدد وتتنوع أنواع الوساطة كوسيلة لتسوية المنازعات فهناك وساطة قضائية يَسنِد فيها أطراف النزاع مهمة الوساطة لعنصر قضائي يحاول مساعدة الأطراف المتنازعة للوصول لحل النزاع، وهناك وساطة اتفاقية يَسنِد فيها أطراف النزاع تلك المهمة لأحد الأسخاص ويجب أن توافر فيه شروط محددة، وهناك وساطة نص عليها القانون يلتزم بها الأطراف قبل اللجوء للقاضي الطبيعي وهي وساطة إلزامية نص عليها القانون ورتب أثراً بعدم قبول الدعوى حال عدم اللجوء إليها.
وفي مصر نص القانون رقم 120 لسنة 2008 والخاص بالمحكمة الاقتصادية والمعدل بالقانون رقم 146 لسنة 2019 على نشأة هيئة التحضير ومن بين أدوارها القيام بدور الوسيط لحل النزاع قبل عرضه على المحكمة، وهي وساطة قضائية، كما نص القانون رقم 11 لسنة 2018 (قانون الإفلاس الجديد) على الوساطة كشرط لعرض النزاع على المحكمة وهى وساطة نص عليها القانون ورتب عدم قبول الدعوى حال الإخلال بها.
ولكننا نرى أن تلك التشريعات لم تقم بالواجب نحو تشجيع المجتمع على ثقافة الوساطة، بل أصبحت حالياً مفرغة من معناها وأصبحت مجرد إجراء يجب اللجوء إليه قبل تداول الدعوى أمام المحكمة، وتلك من أهم عيوب تلك التشريعات، فالمجتمع المصري لم يعرف الوساطة كوسيلة لتسوية المنازعات بشكل ظاهر، كما لم يتم تطبيقها بالطريقة الحالية وطبقاً لقواعد القانون النموذجي اليونيسترال ومن ثم جاء النص على تلك المواد المتفرقة في قوانين عديدة خالياً من تحديد المفهوم الدقيق لعملية وإجراءات الوساطة مما أدي إلى فشلها.
وتكمن أهمية الوساطة كوسيلة لتسوية النزاع في كونها أسهل وأسرع وأيسر الطرق، كما أن التعامل –أياً كان نوعه- يمكن أن يستمر حال التفاوض بمعرفة الوسيط لحل النزاع بين الطرفين، وظهرت تلك الأهمية بالأخص في الوقت الحاضر مع تداعيات فايرس كورونا على الاقتصاد والتضخم وحالات الإغلاق والتي رتبت إخلالاً تعاقدياً من شركات متعددة وتعثرات كثيرة للأفراد والشركات تحتاج إلى حل، ونحتاج إلى وسيلة سريعة وفعالة لحل تلك النزاعات، وكذلك الحرب الروسية الأخيرة على أكرانيا والتي سوف تؤثر على الاقتصاد العالمى بأثره.
وتقوم الوساطة –كمبدأ- على سلطان الإرادة وهي نظرية واردة في القانون المدني، فيجب أن تكون الإرادة هي السلطان الأكبر في تكوين العقد، ويجب كذلك أن تكون السلطان الأكبر في تحديد كيفية تسوية منازعاته، وكما قررت محكمة النقض المصرية بأن مبدأ سلطان الإرادة هو الأصل في العقود لكون العقد شريعة المتعاقدين كما ورد بنص المادة 147 من القانون المدني، وينبئ ذلك على أنه إذا توافرت في العقد أركانه من تراضي زمحل وسبب فإنه يقع صحيحاً وتترتب عليه أثاره القانونية التي اتجهت إليها إرادة المتعاقدون، وعلى ذلك فالاتفاق على الوساطة ما هو إلا تقرير لمبدأ سلطان الإرادة.
ونرى ضرورة توحيد قواعد الوساطة في قانون واحد ونؤيد فكرة وجود تشريع موحد للوساطة وعلى ذلك نرى أن مجلس النواب السابق قد أحسن صنعاً حين قام بصياغة مشروع قانون موحد للوساطة إلا أنه لم يقم بإقراره نهائياً رغم موافقة اللجنة التشريعية وهو ما نراه أمراً غريباً، وقد تميز هذا القانون –الذي لم يتم إقراره نهائياً حتى الأن- بعدة مميزات منها أنه حدد أنواع الوساطة، كما حدد إجراءات الوساطة بدقة ومنح محضر التسوية الناتج على الوساطة قوة السند التنفيذي، وحدد الرسوم وطريقة اللجوء للوساطة تحديداً دقيقاً نحتاج إليه في هذه الأيام للتخفيف مما يلقى على عاتق القضاء والتحكيم من قضاياً كثيرة يمكن اختصارها حال اللجوء للوساطة، ونوصي بضرورة إقرار القانون المعتمد من اللجنة التشريعية حتى يمكن الحكم عملياً على تجربة الوساطة، ونوصي الباحثين بضرورة النظر في هذا الموضوع بدقة نظراً لما له من أهمية في الوقت الحاضر.