النية الرقمية
مقال بقلم الدكتور أشرف نجيب الدريني
هل يمكن أن تتحول نقرة عابرة على شاشة الهاتف إلى دليل على إرادة جنائية؟ وهل يعكس “إعجاب” في فضاء افتراضي قصدًا حقيقيًا بالموافقة على مضمون خطير، أم أنه لا يعدو أن يكون إشارة اجتماعية سريعة لا تحمل ثقلًا قانونيًا؟ بل ماذا لو أن تلك الإشارة لم تصدر عن صاحب الحساب أصلًا، وإنما كانت بفعل متسلل اقتحم هاتفه أو حسابه وترك وراءه أثرًا رقميًا زائفًا يُنسب إليه ظلمًا؟ هذه التساؤلات، التي قد تبدو لك أقرب إلى “الخيال”، هي في الواقع صلب التحدي الذي يواجه القانون والقضاء في عصرنا الرقمي.
في جوهر القانون الجنائي، النية ليست صورة رمزية بل هي تعبير عن إرادة واعية تتجه نحو فعل محدد. القصد الجنائي لا يتحقق إلا إذا انعقدت الإرادة الحرة على إحداث النتيجة، سواء كان الفعل مادياً كإطلاق رصاصة، أو رقمياً كإرسال برمجية خبيثة إلى نظام مصرفي. وكما تعلم الفرق في الوسيلة لا يلغي وحدة المعنى: فالعقل الذي يصيغ الأكواد بدقة ويطلقها لتحقيق غاية غير مشروعة، يمارس ذات الدور الذي يلعبه العقل الذي يضغط على زناد سلاح تقليدي. ولهذا اعتبرت التشريعات الحديثة أن الجرائم المعلوماتية، مثلما ورد في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات المصري رقم 175 لسنة 2018 أو في القانون الإماراتي للجرائم الإلكترونية، لا تقل خطورة عن الجرائم التقليدية، بل تتطلب معالجة حازمة لأنها تمس الأمن والمصالح الحيوية للدولة والأفراد. وفي بريطانيا، وفرنسا أيضًا، وُضعت أطر قانونية مشابهة من خلال تشريعات تجرّم الدخول غير المصرح به إلى النظم الإلكترونية أو إساءة استخدام البيانات الشخصية، مما يعكس وعيًا عالميًا بأن النية الرقمية ليست افتراضًا نظريًا بل حقيقة قانونية قائمة.
لكن التحدي لا يقف عند هذا الحد، فالمعضلة الأعمق تكمن في تمييز “الإرادة الحقيقية” عن “المظاهر الشكلية”. فالإعجاب بمنشور، أو إعادة مشاركته، أو التعليق عليه، قد يحمل عند العامة معنى اجتماعيًا بسيطًا، لكنه قد يُفسَّر قانونيًا في بعض السياقات على أنه مشاركة في نشر خطاب كراهية أو تحريض على العنف. غير أن القانون لا يقوم على الرموز في ذاتها بل على الإرادة الواعية، وكما تعرف لا يُبنى التحريض إلا على دعوة صريحة أو ضمنية لكنها موجهة بوضوح إلى ارتكاب الجريمة، ولا يُثبت التشجيع إلا إذا ارتبط بقصد الدفع إلى الفعل أو استمرار ارتكابه. ومن ثم فإن تحميل “لايك” عابر كل هذه الدلالات قد يؤدي إلى ظلم، لأنه يختزل الإنسان في رمز رقمي لا يعكس بالضرورة قصده ولا إرادته.
والأكثر خطورة أن ينسب الفعل إلى شخص بريء نتيجة اختراق أو عبث من الغير. فإذا استولى أحدهم على هاتف أو حساب وتفاعل باسمه، فإن المسؤولية الجنائية تنتفي لغياب الإرادة الحرة، لأن القاعدة الجوهرية المستقرة في الفقه الجنائي المقارن أن المسؤولية شخصية لا تتحملها إلا إرادة صاحبها. هذا ما تؤكده قوانين مثل Computer Misuse Act البريطاني، أو النصوص الفرنسية التي تحمي الخصوصية الرقمية، وكذلك أحكام المحاكم التي تتعامل بحذر مع الأدلة الإلكترونية، فتنظر إليها كقرائن تحتاج إلى سند إضافي حتى لا تُفتك بقرينة البراءة. فالعدالة لا تُبنى على افتراض أو ظن، بل على يقين قاطع يثبت أن الفعل صدر من صاحبه بإرادة كاملة.
ولنوضح الأمر بأمثلة افتراضية: لنفترض أن شخصًا قام بالضغط على زر “إعجاب” على منشور في منصة اجتماعية بقصد المجاملة لصديق، فإذا اعتُبر هذا الفعل دليلًا على التحريض أو الموافقة على مضمون غير مشروع، فإنه يكون قد جُرِّم على فعل لم تتجه إرادته إليه أصلًا. أو تخيل حالة أخرى، حيث يتم اختراق حساب أحد الأفراد، فيترك المخترق وراءه تفاعلات رقمية يمكن أن تُنسب لصاحب الحساب ظلمًا. بل قد نجد شخصًا ثالثًا يتعرض لمحاولة تصفية حسابات شخصية، فيستغل خصمه أثرًا رقميًا عابرًا كوسيلة للاتهام. هذه الأمثلة الافتراضية تبرز بوضوح خطورة الاعتماد على الرموز الرقمية وحدها كدليل مستقل على القصد الجنائي، إذ يفتح ذلك الباب واسعًا أمام التلفيق وسوء التأويل، ويقوض جوهر الحماية التي يكفلها القانون. ومن هنا تظل مهمة القضاء أساسية في تمحيص هذه الأدلة الإلكترونية، والتأكد من أن ما يُعرض أمامه يعكس بالفعل إرادة واعية وصريحة، لا مجرد أثر عابر أو نتيجة لفعل الغير.
الخاتمة تعيدنا إلى نقطة البداية، التي بدأ بها المقال: هل يمكن أن تُختزل النية الإنسانية بكل عمقها في نقرة رقمية؟ الجواب أن العدالة الحقة لا تقبل هذا الاختزال، لأن النية ليست رمزًا عابرًا بل هي إرادة إنسانية حرة، والقانون لا يحاكم الإنسان على الإشارات الملتبسة بل على الأفعال التي تعبر عن قصد واعٍ. إن التحدي في زمن الرقمنة هو ألا ننخدع بالمظاهر ولا نسمح للرموز السريعة أن تتحول إلى قيود على حرية الإنسان أو أبواب خلفية لتجريم بريء. فالقانون، في جوهره، يلاحق الإرادة الإنسانية حيثما تجلت، في العالم المادي أو الرقمي، ويظل دوره أن يصون الحقيقة ويحمي البراءة ويواجه الجريمة بما يليق بجلال العدالة. وهكذا، تبقى النية الرقمية امتدادًا للنية الإنسانية نفسها، لا تُفهم إلا بعمقها ولا تُقرأ إلا بصدقها، والعدالة هي المرآة التي تكشف هذا العمق وتحفظ للإنسان كرامته وسط عالم تتداخل فيه الإرادة بالرمز، والحرية بالمسؤولية. والله من وراء القصد.