النقيب مرقص باشا حنا.. أنشودة الوطنية (1)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 1/11/2021
ــــــــــــ
بقلم : رجائى عطية
ينفرد الأستاذ مرقص باشا حنا المولود سنة 1572 ــ ينفرد بين المحامين , بصفات ومكنات وقدرات وأدوار متعددة , يصعب جدَّا أن تجتمع لأحد . تذكرنى صفحته بما أطلقناه على عبد العزيز باشا فهمى من أنه صاحب القمم المتعددة , فهو وصف ينطبق على صفحته التى امتلأت بمستوى رفيع فى التعليم , وبأداء رفيع فى الوطنية, وفى السياسية , وفيما حمله من حقائب وزارية , وفى دورة فى الثورة الوطنية 1919 وحزب الوفد , وفيما تبوأه فى نقابة المحامين , حتى يكاد بغير نظير فى المدد المتصلة التى شغل فيها موقع نقيب المحامين .
كان رحمه الله خامس النقباء , بعد الهلباوى وعبد العزيز فهمى ومحمود أبو النصر وأحمد لطفى السيد .
بيد أننى لم أجد بين النقباء من شغل منصب النقيب خمس دورات متصلة , بدءًا من 2 ديسمبر 1919 , ثم عاد ليفوز بدورة سادسة سنتى 1925/1926 , وهذه شهادة له , وشهادة للمجتمع المصرى وللمحامين فى ذلك التاريخ .
الشهادة التى تحسب للمصريين بعامة , وللمحامين بخاصة , أنهم غلّبوا الانتماء للوطن , على دعاوى الطائفية الضريرة . كان العقل والانتماء الوطنى أعلى كعبًا فى مصر فى ذلك الأوان , ولم يكن ما نراه الآن ــ للأسف ــ من طائفيات وتعصبات , لم يكن له وجود , فيفوز محامِ قبطى بمنصب نقيب المحامين خمس دورات متتالية فى سابقة لم تحدث قبله ولا بعده , ثم ليعاد انتخابه مرة سادسة , دون أى بادرة وسط المحامين لأى انحياز طائفى .
والحق أنه كان جديرًا بهذا الاختيار بما يشبه الإجماع بين المحامين , مسلمين وأقباطًا . أهله لذك صفحته النقية , وعلو كعبه فى كل باب , وامتيازه الحاضر فى الوطنية وتبنى كل قضايا الوطن , سواء فترة وجوده بالحزب الوطنى مع مصطفى كامل ,أم فترة وجوده مع سعد زغلول فى ثورة 1919 , وفى حزب الوفد , حتى عُدَّ من الرعيل الأول من قيادات الوفد , وفاز بأغلبية واضحة بعضوية مجلس النواب عن دائرة الأزبكية فى أول انتخابات برلمانية .
كان ممن شاركوا فى الجهود الأولى لإنشاء نقابة المحامين , ودخل عضوًا فى أول مجلس يُنتخب للنقابة لدى إنشائها عام 1912 , ثم انتخبه المحامون وكيلًا للنقابة سنة 1914 .
كان أهلاً لهذا الاختيار المتكرر , حصل على شهادة الحقوق من جامعة مونبليه الفرنسية ، ثم على شهادة فى العلوم الاقتصادية من جامعة باريس ، ولدى عودته إلى مصر عين سنة 1891 وهو دون الواحدة والعشرين ــ وكيلاً للنائب العام ، ولكنه استقال بتشجيع من زوجته في سنة 1904 ليعمل بالمحاماة ، وكشف عن إنتمائه المصرى قبل الطائفى ، حين تصدى ــ وكان آنذاك عضوًا بالحزب الوطنى القديم ــ للرد على اتهام البعض لمصطفى كامل بالتعصب الدينى .
سرعان ما تبوأ موقع نقيب المحامين ــ ولخمس دورات متصلة ــ منذ 12/12/1919 ، عام الثورة التى انغمر فيها مرقص حنا ، واختير في أبريل 1919 عضوًا بلجنة الوفد المركزية برئاسة محمود سليمان باشا .
فى أعقاب فشل مفاوضات عدلى يكن باشا في إنجلترا في ديسمبر 1921 ، نُفى سعد زغلول ورفاقه إلى جزيرة سيشل ، ثم اعتقل الإنجليز قيادات الوفد بالقاهرة .. حمد الباسل ، وويصا واصف ، ومرقص حنا نقيب المحامين ، وواصف بطرس غالى ، وعلوى الجزار ، وجورج خياط ، ومراد الشريعى ، وأودعوهم ثكنات قصر النيل ، وسرعان ما قدموهم للمحاكمة العسكرية ، بتهمة طبع منشورات تحض على كراهية واحتقار الحكومة المصرية ، وإذا بتلك المحكمة تقضى بإعدام السبعة ، فيكونوا ومرقص حنا أول من يحكم عليه بالإعدام من المحامين .
بيد أن سلطات الاحتلال خشيت من رد فعل القوى الوطنية ، فخفف الحكم إلى السجن سبع سنوات وغرامه خمسة آلاف جنيه ، ثم أفرجت عنهم سلطات الاحتلال بعد ثمانية أشهر أمضوها في السجن عن تهمة كاذبة لا وجود لها !!
عُرف طوال حياته بتشجيعه المستمر للتعليم , وكان عضوًا فى مجلس الجامعة الأهلية المصرية النواة الأولى لجامعة القاهرة , وأسس كلية البنات القبطية , وبرغم مشاغله الكثيرة فى المحاماة , وحمله ثلاث حقائب وزارية , وزيرًا للأشغال , ووزيرًا للمالية , ووزيرًا للخارجية , فإنه قام بدورٍ مشهود في كل القضايا الوطنية , وعندما اكتشف « هيوارد كارتر» مقبرة توت عنخ آمون , وعلم أنه فتح زيارتها للأجانب , وحظر زيارة المصريين , وكان ذلك في عام 1923 , بادر ــ وكان وزيرًا للأشغال , بفتح هذه القضية علنًا , وأرسل حامية من الشرطة لإغلاق المقبرة . لحفظ حق مصر في آثار مَلِكها الفرعونى الشهير , ورغم هجوم الصحف الأجنبية عليه , فإنه لم يتراجع وصمم على موقفه لحماية تاريخ مصر وتراثها .
هو بالفعل أنشودة الوطنية ، خاض الغمار مضحيًا بحياته من أجل مصر ، واشتهر بين ربوعها بوطنيته وشجاعته النادرة .
يوم اعتُقل مع زملائه عام 1921 ، نهض الأستاذ محمد أبو شادى وكيل نقابة المحامين ، يجمع توقيعات كافة المحامين في مصر ، على مذكرة رفعها للملك ، وطلب مقابلته ، وشكلت لجنة من المحامين للدفاع عن السبعة المعتقلين والمحالين جورًا إلى محكمة عسكرية .
يومها أرسل مجلس النقابة إلى النقيب السجين مرقص حنا . جاء فيها :
« يا حضرة الزميل .. سجنت أو لم تسجن أنت نقيب المحامين ؛ ولقد زدت عندهم منزلة وعلوت قدرًا بما تتحمله من الأذى والتضحية في سبيل أشرف وأنبل مقص ؛ فالله يرعاك في شدتك ؛ ويبارك في إخلاصك وثباتك » .
زر الذهاب إلى الأعلى