النقيب الضليع محمود بك أبو النصر أستاذ القانون والمحاماة (2)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 10/1/2022
ــــــــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ: رجائى عطية
قبل أن أستطرد ، أحب أن أبدى للقارئ أننى لاقيت استحالة فى جمع المادة عن هذا النقيب العظيم ، والمحامى الضليع الفذ ، وهذه حالة تثبت ما أسلفته لك من أن معظم تراث المحامين يذهب بددًا ، ولولا كتاب « المرافعات فى أشهر قضايا العصر » الذى كتبه الأستاذ الكبير المرحوم محمود عاصم ، لاستحال علينا أن نرى ولو مثال لمرافعات هذا الأستاذ العظيم الفذ .
ومما تناقلته الأخبار ، أنه تقرر فى عهده إيداع أموال نقابة المحامين فى البنك الاهلى لاستثمارها والاستفادة بفوائدها ، وعلى أن يتم الصرف منها بمقتضى شيكات يوقعها النقيب بنفسه وأمين الصندوق ، وكانت هذه خطوة لهيكلة النقابة ، ووضع قواعد ونظام لسير العمل .
وإليه يرجع الفضل فى إنشاء مكتبة شاملة لنقابة المحامين ، قانونية ومعرفية ، تستهدف تيسير عملية الاطلاع على كل المحامين . وبالفعل أنشئت المكتبة وقد أهدتها مدرسة الحقوق السلطانية نحو سبعين مجلدًا من أمهات كتب القانون .
أما مرافعته الكبرى ، التى سجلها له التاريخ ، فكانت عن إبراهيم الوردانى المتهم فى قضية اغتيال بطرس باشا غالى رئيس النظار ، تلك المرافعة التى أبدع فيها فى نفى عناصر ظرف سبق الإصرار .. المرافعة التى أحب أن أختم بها حديثى عن هذا الأستاذ الجليل ، وفيما عدا هذه المرافعة ؛ كان علىّ أن أبذل قصارى جهدى فى جمع ما عساه يكون فى مدونات التاريخ عن هذا المحامى الضليع .
ذلك أن عملاقنا الفذ محمود بك أبو النصر , من أكثر عمالقة المحاماة الذين ظلمهم قصور تدوين التاريخ , وبدد رصيد المحامين للأسباب التى حدثتك عنها , منها قصور محاضر الجلسات عن تدوين المرافعات الشفهية , ناهيك عن جرسها وموسيقاها وفنون إلقائها , وهذه الفنون هى عصب التميّز فى عالم المحاماة , وكثيرًا ما أنصح الزملاء بأن يعودوا إلى الكتاب الضافى « فن الإلقاء » الذى وضعه الأستاذ الكبير الفنان عبد الوارث عمر , وهو كتابٌ يتميز عن « البيان والتبيين » الذى كتبه الجاحظ من ألف عام ، بما حصله عبد الوارث عسر من تجاربه العملية التى أفادته كثيرًا فى دمج النظرية بالتطبيق ، وبما دان لهذا الفنان المتمكن عبر رحلته الطويلة فى عالم المسرح والسينما ، مما جعله فنانًا ضليعًا فى فنون الالقاء ، وإليه الفضل فيمن تميزوا من تلاميذه فى الالقاء , سواء فى المعهد العالى للمسرح أو للسينما , أو من لجئوا إليه لجوءً خاصًا للتعلم واتقان فن الإلقاء على بديه , وكيف يكون الفارق بين الإلقاء المسرحى , والحوار السينمائى .
أضف إلى ما تحدثنا عنه ؛ أن المحاضر والمذكرات , غير ميسرة الإطلاع عليها لمن يريد , وقليلٌ من أفذاذ المحاماة من نجوا من هذا المصير , لعنايتهم بالتأليف وبتدوين مذكراتهم الشخصية .
فتشت لإعجابى بهذه الشخصية الفذة الفريدة فى نحو خمسين كتابًا طفقت أجمعها وأنقب فيها , وللأسف أن الحصاد أقل كثيرًا مما ينقل صورة هذا الهرم , ويدل على عراضة تميّزه , وخصوصية قدراته التى جعلته نسيج وحده فى عالم المحاماة .
أما مرافعته التى بقيت لنا فى قضية اغتيال بطرس باشا غالى رئيس مجلس النظار ، فهى الدرة التى استرعت انتباهى إلى ثراء هذه القامة ، ولا يستطاع تبين ما فى تلك المرافعة من إمكانيات عريضة ، إلاَّ إذا فهمنا تلك القضية والتى اتهم فيها إبراهيم الوردانى .
لم تكن القضية مجرد اغتيال مسئول سياسى كبير ، أو قتل رئيس وزراء ، فقد اغتيل من بعده بسنوات ، الدكتور أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء ، فى البهو الفرعونى بالبرلمان ، واغتيل من تلاه رئيس الوزراء محمود فهمى النقراشى باشا ؛ فى مبنى وزارة الداخلية التى حمل حقيبتها مع رئاسته لمجلس الوزراء ، ولكن أيًّا من قضيتى اغتيال ماهر والنقراشى ، لم تثر ما أثارته قضية اغتيال بطرس غالى من حساسيات واحتقانات كادت تؤدى إلى فتنة طائفية فى البلاد .
كان السؤال الأساسى وقد بدأت مقدمات الفتنة ، هل اغتيال بطرس باشا غالى فى فبراير 1910 وقع لأسباب سياسية ، أم أن مرده إلى أسباب طائفية ؟ . استغلت سلطات الاحتلال الإنجليزى هذا الحادث ـ لتلعب لعبتها .. « فرق تسد » ، واجتهد الإنجليز ومن جرى مجراهم إلى إشعال هذا الاتجاه ، برغم أن الظاهر الواضح أن الاغتيال لا علاقة له بأى أسباب طائفية ، فبطرس باشا غالى لم يكن قريبًا من الشعور الوطنى بعامة ، لمواقفه ظاهرة الانحياز للإنجليز ، ولترأسه المحكمة المخصوصة التى عصفت بأبناء قرية دنشواى الذين تجمعت عليهم مظالم الإنجليز وطلاب متعة الصيد على حساب أمن القرية ، مع نكوص السلطة الوطنية المنقادة للاحتلال ، وخروج المحكمة المخصوصة برئاسة بطرس غالى على مقتضى الحق والعدل ، وإسرافها فيما أصدرته من عقوبات جائرة بالإعدام والأشغال الشاقة والسجن والجلد الذى جرى تنفيذه على مشهد من أبناء القرية الوادعة وأهالى المحكوم عليهم الذين نصبت لهم المشانق ومنصات الجلد بالقرية الوادعة !!
لم يكن ذلك هو كل ما أخذه الشعب المصرى على بطرس باشا غالى ، وإنما أخذ عليه موقفه الممالئ أو المنحاز أو المستسلم للإنجليز فى كثير من الأمور والقضايا المصيرية الهامة ، كتوقيعه اتفاقية السودان سنة 1899 ، ودوره فى إعادة قانون المطبوعات المقيت إلى الشعب وإلى الصحافة وإلى أصحاب الرأى بعامة ، وسعيه الحثيث إلى مناصرة وتحبيذ مشروع مد امتياز شركة قناة السويس !!..