النقيب الضليع محمود بك أبو النصر أستاذ القانون والمحاماة (1)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 3/1/2022

ــ

بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين

محمود بك أبو النصر هو النقيب الثالث للمحامين ، تبوأ سدة النقابة منذ 18 ديسمبر 1914 ، وكان نسيج وحده فى العلم بالقانون والمحاماة ، حسبك أن تقرأ مرافعته التى امتدت طويلاً فى نفى ظرف سبق الإصرار عن إبراهيم الوردانى فى قضية اغتيال رئيس النظار بطرس باشا غالى . وجه الصعوبة التى عالجها بأستاذيه فريدة فذة ، أن العنصر الزمنى كان طويلاً بين قرار الاغتيال فى10 فبراير وبين ارتكاب الجريمة فى 20 فبراير ، وهو ما يصعب معه ، بل وقد يستحيل ، إثبات أن الجانى ظل طوال هذه الفترة تحت تأثير عوامل مستمرة وأخرى مستجدة ، بينها بسلاسة وأستاذية ، أذهبت ما يجب أن يتوفر لسبق الإصرار من استقرار وثبات وروية ، بلا أى تردد أو إحجام  ، وهو ما طفق هذا الأستاذ الجليل الفذ يثبته تباعًا ، إثباتًا شيقًا ومتمكنًا ، فى مرافعة طويلة استغرق نشر هذا الشق منها ثمانية وعشرين صفحة كاملة من الكتاب الجامع الذى وضعه الأستاذ الكبير المرحوم محمود عاصم ، تحت عنوان : « المرافعات فى أشهر قضايا العصر » .

من القضايا المعروفة التى ترافع فيها ، قضية محاكمة خطباء المتظاهرين ، وترافع فيها عن أحمد حلمى ( جد صلاح جاهين ) ، فقد كان مجلس الوزراء قد أصدر فى 25 مارس 1909 قرارًا بالعودة إلى قانون المطبوعات ، وجاء بالقرار « أن الحكومة منذ سنة 1894 لم تنفذ قانون المطبوعات الصادر فى 26 نوفمبر 1881 ، وحيث أن الجمعية العمومية طلبت من الحكومة فى 26 مارس 1902 ردع الجرائد عن تجاوزها الحدود وعن الفوضى التى وصلت إليها وأرسل إليها مجلس شورى القوانين طلبًا مثل ذلك في 30 يونيو 1904 وحيث أن عدم تنفيذ قانون المطبوعات لم يزد هذه الجرائد إلاَّ تماديًا في التطرف والخروج عن الحد ؛ حتى أدى ذلك إلى شكوى الناس ولسان الجمعية العمومية ومجلس الشورى القوانين من هذه الحالة التى أضرت بمصالح البلاد ضررًا بليغًا فقد قرر مجلس الوزراء ما يأتى : يعمل بأحكام قانون المطبوعات فيما يتعلق منها بنشر الجرائد في القطر المصرى » .

وبصدور هذا القرار اندلعت المظاهرات ، احتجاجًا على إعادة هذا القانون البغيض الذى يصادر الحريات ، وقبضت السلطات على بعض زعماء المتظاهرين ، وكان من بين المقبوض عليهم أحمد حلمى أفندى ( صاحب جريدة القطر المصرى ) ؛ وأحيل للمحاكمة هو وعدد كبير من الطلبة .

ووجهت إلى أحمد حلمى تهمة إهانة المستشارين الإنجليز وتهمة رمى الحكومة بالتنكيل بالدين بضرب طلبة الأزهر مما عد تحريضًا على كراهية الحكومة التى قال عنها أنها تسير على رأى الاحتلال مما يبعث على احتقارها . أما المتهم الثانى فكان عثمان طلعت صبور إذ اتهم بأنه نادى ( لتسقط حكومة الفرد ) وأنه قصد بها حكومة الخديو مما اعتبر تطاولاً على مسند الخديوية . أما المتهم الثالث فكان شقيق الثانى ويدعى مختار طلعت صبور ، واتهم بالتحريض على كراهية الحكومة إذ نسب إليها الظلم والاستبداد وعدم مراعاتها للأمة ، بينما وجه للمتهم الرابع أحمد زكى تهمة القدح في الهيئة الحاكمة ، إذ أهان هيئة النظار فقال إن النظارة « المشئومة » بلية ابتليت بها مصر . واتهم المتهم الخامس محمود رمزى نظيم بإهانة النظارة أيضًا فألصق بها صفات الجبن والخزى ، وعاب في حق ولى الأمر ، أما المتهم الأخير فكان إبراهيم محمد الذى اهان بدوره أعمال النظارة . ثم أختتم قوله : « تلك أعمال الوزارة فلا سلام عليها » .

وقد وكل الأستاذ محمود أبو النصر محاميًا عن « أحمد حلمى » ، ووكل أيضًا عن المتهمين الأستاذ إبراهيم الهلباوى والأستاذ مرقص بك فهمى ، ونظرت الدعوى أمام محكمة عابدين ، وأدى قبولهم للوكالة إلى غضب الخديو ، وسبب غضبه أن احمد حلمى كان قد ترجم مقالة نشرت بجريدة العدل التركية ، ونشرها أحمد حلمى في جريدة « القطر المصرى » ، واعتبر الخديو أن المقالة ماسة بكرامته ، فرفعت عليه دعوى جنحة ، حيث جاء بالمقال المنشور في جريدة « القطر المصرى » ــ مطاعن على عائلة محمد على باشا ، وان هذه الأسرة هى المسئولة عن شقاء المصريين وتأخرهم ، وحرض المقال على اقتلاع جذور هذه العائلة التى تحكم البلاد ، وليؤول حكم مصر إلى المصريين .

بلغ من غضب الخديو أن كلف وزير الخارجية آنذاك حسين رشدى باشا ثم بطرس باشا غالى رئيس النظار بالتدخل لإثناء المحامين عن الدفاع في تلك الدعوى ، وقد حدثتك سلفًا عما جرى مع الأستاذ إبراهيم الهلباوى ، ورفضه إياه وتصميمه على الاستمرار في الدفاع .

وقد ترافع الأستاذ محمود بك أبو النصر ، كما ترافع الهلباوى ومرقص بك فهمى مرافعات بليغة ، وصدر الحكم في النهاية قاضيًا ببراءة جميع المتهمين .

ومن مرافعة النقيب الضليع محمود بك أبو النصر « يا حضرات المستشارين إنى أجل مقامكم الرفيع ونظركم الصحيح عن أن تنظروا إلى هذا المتهم بالعين التى تنظرون بها إلى أخساء الجناة وقطاع الطرق . نعم الناس كلها أمام سلطة القانون سواء ، ولكن ليس معنى هذا أن القانون يسوي بين الخبيث والطيب ، ولا أنه يضرب برقى الإحساس، وقوة الشعور وشرف الأنساب عرض الحائط ؛ كلا إن القانون نفسه شاهد على وجوب رعاية هذة الاعتبارات وجعلها فى المحل الأول عند تقرير المسئولية ، وكل قانون يخرج بالإنسان عن حقوق الإنسان أو يرمى إلى عكس الطبيعة ومنافاة الفطرة يكون هو الاستبداد بعينيه » .

زر الذهاب إلى الأعلى