النقيب الضليع.. محمود بك أبو النصر.. أستاذ القانون والمحاماة (5)

بقلم الأستاذ : رجائي عطية نقيب المحامين رئيس اتحتاد المحامين العرب
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 31/1/2022
ــــــــ
جدير بالذكر ، أنه رغم التحريض الإنجليزى السافر والخفى لشق الأمة المصرية ، فإن معظم أقباط مصر لم يلتقطوا الطعم ، وكتب عددٌ غير قليل منهم فى صحيفة أجنبية نقلت عنها كل الصحف المصرية ، منهم الأستاذ ناصيف المنقبادى المحامى المقيم فى باريس ، ونشر ما كتبه فى 9 مارس 1910 ، تحت عنوان : « رأى شاب قبطى » ، يقول لرئيس تحرير جريدة « الأكلير » :
« إسمح لى بصفتى مصريًّا أن أقرر بعض نقاط تتعلق بمقتل بطرس باشا غالى رئيس الوزارة المصرية . ليس من اختصاصى تقدير عمل إبراهيم الوردانى ، ولكنى أريد من صميم فؤادى أن أبدد التهم التى أشاعها الإنجليز فى العالم ضد هذا الشاب ليقللوا من النتيجة السياسية لعمله . فلقد اتهموه بأنه فتى مختل الشعور قليل الذكاء وأنه أطاع داعى التعصب الإسلامى بقتله بطرس باشا غالى المسيحى الذى يقولون إنه كان حرًّا ووطنيا ـ أنا اعرف الوردانى شخصيًّا ؛ وهو فتى شديد الذكاء كثير المعارف ، ملء صدره الوطنية الحرة ، وليس رجلاً متعصبًا . ولم يقدم على عمله إلا بداعى الوطنية المتحمسة بعد أن ضاق صدره ـ كما ضاقت صدورنا جميعًا ــ من السياسة الإنكليزية التى كان بطرس باشا غالى ينفذها باجتهاد ، وأنا بصفتى قبطيًّا ـ أعنى مصريا مسيحيا ـ أصرح بأن حركتنا هى حركة وطنية مجردة ترمى إلى الترقى والحرية ، وما تهمة التعصب الإسلامى إلاّ من إشاعات الإنكليز التى يشيعونها ليبرروا المظالم التى يرتكبونها فى مصر » .
وبفضل الحكماء أمثال هذا المحامى ، خرجت مصر من مخاطر الفتنة التى رامها الإنجليز والمتربصون ، وفشلت محاولات تفريق شمل الأمة .
ولكن الأمر فى النهاية ، قضية قتل يحكمها القانون ، والقانون يعاقب على القتل العمد مع سبق الإصرار بالإعدام ، وكان لابد على الأستاذ محمود بك أبو النصر أن يعالج الأمر أمام المحكمة بما ينبغى أن تنهض به المحاماة الحقة .
لم تكن أمام الدفاع صعوبة فى الإقناع بأسباب الاغتيال وبعدها عن الطائفية ، فالأسباب أو المآخذ التى دفعت الجانى إلى ارتكاب الجريمة ، وتلك التحفظات على سياسة بطرس باشا غالى ، كانت محل اتفاق لدى المصريين ، مسلمين وأقباط ، فما من أحد إلاَّ وضاق بأحكام دنشواى ، حتى رأينا الأستاذ إبراهيم الهلباوى يعانى كثيرًا من قبوله تمثيل الإدعاء فى تلك المحاكمة المؤسفة ، ولا مراء أن الأحكام الغليظة التى صدرت فيها ، وعلى رأسها الإعدام وعقوبات شديدة سالبة للحرية ، والجلد على مرأى ومسمع من أبناء القرية الوادعة ، حمل مسئوليتها أمام الشعب ، رئيس المحكمة بطرس باشا غالى ، وعضوها أحمد فتحى زغلول ( شقيق سعد زغلول ) ، أما العضو الإنجليزى بهيئة المحكمة ، فلا غرابة فى موقفه ، فهو وراء حكومته الإستعمارية ، كذلك اتفاقية السودان ، التى أبرمها بطرس باشا فى يناير 1899 ، والتى مكنت بريطانيا من السودان بعد فشل الثورة العرابية ، ومما يذكر أنه يوم توقيع الاتفاقية ، عُين اللورد كتشنر سردارًا للجيش المصرى ، وحاكمًا عامًّا على السودان ، مما زاد من غضب المصريين الذين أطلقوا على الاتفاقية ، أنها اتفاقية تقسيم السودان ، ومما يذكر ، أن الدكتور محمد حسين هيكل باشا ، وبرغم أنه سياسى معتدل ، صـرح يقول : « قد نعجب إذ نرى بطرس ولم يكن فى سنة 1899 سوى وزيرًا للخارجية ، متضامنًا ـ حسب المفترض ـ مع سائر زملائه النظار فى السياسة العامة للدولة ، تراه يحمل وحده وزر هذه الاتفاقية ، وأخذ عليه خصومه أنه المسئول الأول والمباشر ، فهو الذى وقع الاتفاقية باسمه وبيده ، فضلا عن أنه أكثر الوزراء مسئولية وأذكاهم ، ومن ثم كان أولاهم بالتفطن إلى المضار الشديدة لهذه الاتفاقية على مصر ومصالحها ـ أما إعادة قانون المطبوعات ، فقد أثارت الجميع ، ثورة عارمة ، حين أعيد العمل به فى 25 مارس سنه 1909 ، أى قبل عام من واقعة الاغتيال التى تداعت فى 21 فبراير 1910 ـ وامتلأت مصر بمظاهرات غاضبة على إعادة العمل بهذا القانون الذى يعصف بالحريات ، وحرر عنه محمد فريد عريضة احتجاج شديدة إلى الخديوى ، وكان أول من حوكم من توابع هذه الانفجارات ، الشيخ عبد العزيز البشرى ، تلميذ الأستاذ الإمام محمد عبده ، وصاحب الشعبية الضخمة ، حوكم بمقتضـى هـذا القانون ( العائد) بالحبس ثلاثة أشهر عن مقال كتبه عام 1909 فى ذكرى حادثة دنشواى ، وحوكم به أيضًا الشيخ على الغاياتى عن ديوان وطنيتى ، وحوكم معه شهيد الوطنية محمد بك فريد لكتابته مقدمة لهذا الديوان ، مع أنه ثبت أن تلك المقدمة كتبت قبل صدور الديوان ، وحسن نية الزعيم واضح ، فلم يكن قد اطلع على مضمون الديوان الذى لم يكن قد صدر بعد ، حين كتب هذه المقدمة من باب المجاملة كما تجرى الأمور عادة إلاّ فيما ندر .
أما مد امتياز شركة قناة السويس ـ مقابل أربعة ملايين جنيه !!! ، والذى سعت فيه انجلترا وفرنسا ، وعارضه الشعب المصرى بأسره ، مسلمين وأقباطًا ، وحمل بطرس غالى وزره أمام الشعب ، حيث كان رئيس النظار هو المتبنى مد الامتياز ، وانتدب لتمثيل الحكومة لتأييده بالبرلمان : سعد باشا زغلول ، ولم يكن قد ظهر بعد ، خلفيات هذا المشهد الذى أغضب المصريين ، والتى أوضحها أحمد شفيق باشا رئيس الديوان الخديوى ، فى مذكراته فى نصف قرن , وكشف أن تأييد الحكومة أمام البرلمان ، كان حيلة متفق عليها بين بطرس غالى وسعد زغلول ، لإخراج الحكومة من هذا الحرج ، بعرض الأمر على البرلمان ، والذى كان مقطوعًا سلفًا بأنه سوف يرفضه ، وهو ما حدث بالإجماع إلاّ صوت واحد للعضـو عبد الشهيد .
أما فى عام 1910 ، فكان الظاهر أمام الناس ، ما دعا إلى ملامة بطرس غالى وسعد زغلول على السواء .
زر الذهاب إلى الأعلى