النظام الجنائي في الإسلام

إعداد: محمود طاهر

 

يقصد بالنظام الجنائى ، فى النظم القانونية الوضعية مجموعة القواعد العامة والمجردة التى تنظم حق الدولة فى العقاب.

وتنقسم تلك القواعد إلى قسمين الأول موضوعى : ويعنى بيان الأفعال التى تعد من منظور القانون فعلا مجرما ( الجريمة) وكذلك بيان العقاب المستحق جزاءا لهذا الفعل أو الإمتناع المجرم .

القسم الثاني هو قسم إجرائي يعني ببيان الإجراءات المتبعة من وقت وقوع الجريمة إلى إلى صدور حكم نهائي.

ويكمن تعريف النظام الجنائي الإسلامي، بأنه مجموعة القواعد العامة والمجردة التي وردت في القرآن الكريم، أو دلت عليها السنة النبوية، أو حازت إجماع الأمة، والتي تنظم حق ولي الأمر في العقاب ببيان الجرائم والعقوبات المقدره لها.

ولما كان النظام الجنائي الإسلامي، هو الأكثر تعرضا للنقد، فيجب بداية الإشارة، إلى بعض البديهيات قبل الخوض في الحديث عن الجريمة والعقوبة في الإسلام .

1- إن الله تعالى هو خالقنا وهو أعلم بمصالح عباده منهم ، وهو عز وجل أرحم بهم من أنفسهم ، ولا يمكن بحال من الأحوال تصور تعارض ما شرعه مع مصالح عباده .

2- إن غاية التشريع الإسلامى ان يحفظ للبشرية خمس مصالح معتبرة وهي : الدين ، النفس ، النسل، المال، والعقل .

والعقوبات فى الإسلام قسم من أقسام شريعته تتجه إليه جملة غاياتها وهى حماية المصلحة العامة ، والمحافظة على الضرورات الخمس، والجريمة ماهي إلا إعتداء على واحد من هذه الأمور ، فالزنا اعتداء على النسل ، والسرقة اعتداء على المال ، وشرب الخمر اعتداء على العقل ، والردة اعتداء على الدين وهكذا. وإذا كانت الجريمة على هذا إعتداءاعلى تلك المصالح التى جاءت الشريعة لحمايتها فلابد من عقاب رادع لمنع الآثم من أن يستمر فى إثمه وغية.

3- إن الله تعالى لم يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم ليسيطر على الناس ، أو ليكون عليهم جباراً ، وانما أرسله ليكون رحمة للعالمين قال تعالى « فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر» وقوله « وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ» وقوله تعالى « ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين »

فالله أنزل شريعته للناس وبعث رسوله فيهم لتعليم الناس وإرشادهم ، ولحمايتهم من المفاسد ، واستنقاذهم من الجهالة ،وارشادهم من الجهالة وكفهم عن المعاصى ، وقد فرض العقاب على مخالفة أمره ذلك لأن أن الناس قد يكرهوا فعلا ولا بؤدونه رغم أنه فيه مصلحتهم ، ويشتهون آخر فيفعلونه رغم مافيه من ضر لهم ، فالعقاب مقرر لإصلاح الأفراد ولحماية الجماعة وصيانة نظامها ، والله الذى شرع لنا هذه الأحكام وأمرنا بها لا تضره معصية عاص ولو عصاه من فى الأرض جميعا ، كما لا تنفعة طاعة طائع ولو أطاعه أهل الأرض جميعاً.

4- ليست الرحمة مرادفة لمعنى التسامح ، أو معنى الشفقة والرفق، فقد يكون فى التسامح والرفق والشفقه ما يحمل فى ثناياه أشد أنواع القسوة ، فالرفق مع أولئك الذين يبغون فى الأرض فى الفساد ، أو مع الذين لا يرجى منهم خير ، ولا يأمن الناس منهم شر ، الرفق مع أولئك الذين يسلكون مسلك الوحوش فى تعاملهم مع الناس هو القسوة فى ذاتها ، ذلك لأنه وإن كان رفقاً بالذين أجرموا ، لكنه قسوة على من وقع عليه الإعتداء والمجنى عليهم.

لذلك قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رحمة الله للعالمين أن من لا يرحم الناس لا يرحمه القانون الرادع الزاجر ، فقد قال صلى الله عليه وسلم ” من لا يرحم لا يرحم ”

5- لقد صرح القرآن الكريم أن الرسالات الإلهية غايتها إقامة العدل والقسط بين الناس ، وإقامة الرحمة لازم من لوازم العدل . كما قرن القرآن الكريم ذكر الحديد بجوار ذكر القسط ، للإشارة إلى أن العدل الحقيقى لا يمكن أن يثبت ثبوتاً مستقراً دائما إلا إذا كان معه الحديد يحميه ببأسه الشديد.

فالرحمة الحق هى التى يقرها العدل ، والتسامح الحق هو الذى لا يخفض حق، ولا يقيم باطلا ، فإن كان من وراءه باطل ، فإن ذلك هو القسوة الحقيقية

يقول تعالى” لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ.

6- ولأن شريعة الإسلام هى الرحمة الحقيقية بالناس ، ولأن العدالة والرحمة متلازمان من أجل ذلك شرعت العقوبات الرادعة للمعتدين على حقوق الناس ومصالحهم المعبرة.

وأساس العقوبة فى الإسلام هو القصاص بالتساوى بين الإثم المرتكب ، والعقوبة الرادعة ، والعقوبة فى الإسلام من جنس الجريمة . وأساسها المساواة بين الجرم والعقاب.

وما أجمل قوله تعالى “وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” حياة هادئة مطمئنة مطمئنة لا فساد فيها ولابغى ولا عدوان “.

7- المجتمع المسلم يقوم على الفضيلة والمثل والأخلاق مجتمع روعى فيه أنه يقوم على الوازع الدينى والضمير الحى لأفرادة ، مجتمع يسعى فيه أفراده نحو إرضاء خالقهم ولا يكون ذلك إلا بالفضيلة والأخلاق ، وكراهية الفساد ، وتجنب ايزاء الغير ، بل إن حب الإنسان لأخيه الإنسان من أسباب تمام الإيمان ، ولم تكن الفضيلة شعارات أو دعوة إفتراضية ، بل وضع الإسلام من الأسس والقواعد والضوابط ما يجعل سلوك الفرد لا يخرج عن إطار الفضيلة والأخلاق ، واهتم الإسلام بتقويم طبائع أتباعه على نحو يستقيم مع الحق والمعروف ، ويرفض الباطل والمنكر، ومن ثم فإن الخروج عن تلك الضوابط هو إخلال بالنظام العام فى المجتمع ، يستوجب عقاب فاعله.

ويجب أن يأخذ فى الإعتبار أن العقوبة تأتى فى آخر المطاف بعد وسائل علاجية أخرى، فليست هى الوسيلة العلاجية الوحيدة، بل هى آخر الوسائل إستخداماً.

8- شريعة الله لا تتجه إلى أعراف الناس ، وما تواضعوا عليه خيرا وشرا بل تتجه إلى الحقيقة المجردة ، تتجه إلى الفضائل فتحميها ، وتذود عنها ، وإلى الرزائل تمنعها وتقضى عليها.

وأول مزية من مزايا الشرع فى احكام الجنايات أنه عام يعم الحاكم والمحكوم، وأنه يقيد الراعى والرعية ، فلا ينطلق من حكمه الأقوياء ، ويطبق على الضعفاء ولقد صاح نبى الرحمة بذلك عندما دخلت قريش الإسلام وأرادوا أن يعفو شريفة من حد من حدود الله لشرفها فصاح فيهم بقوله:”إنما اهلك من كان قبلكم ،أنهم كان اذا سرق فيهم الشريف تركوه ،واذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد،وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها”رواه البخارى ومسلم.

وأروع ما فى الشريعة فى هذا الخصوص أنها أول ماتطبق تطبق على أتباعها ، أما من لا يدينون بها فهى لا تحكم تصرفاتهم ، ولهم ما يدينون ، وأن يتحاكموا إلى ما يعتقدون.

9- النظام العام لمجتمع المسلمين كما يريده الإسلام يقوم على أصل مكين من تكافل الجماعة على نحو يتيح لكل فرد أن ينال حقه كاملا فى حياة انسانية كريمة ، تليق بالبشر الذين قال الله فيهم ” وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ”.

وحق الحياة الكريمة مقرر لكل فرد يحيا فى مجتمع المسلمين ولو كان ذمياً وقصة عمر رضى الله عنه مع اليهودى الطاعن فى السن معروفة ومشهورة ، والتكافل فى مجتمع المسلمين مسوغ عادل لإقامة الحدود على الخارجين على حدود الله فمن أصول الدين أن تهيأ لكل فرد من أفراد المجتمع الحياة الكريمة.

العقوبة الجنائية فى الشريعة الإسلامية

تعريف العقوبة

تعريف العقوبة لغة يقول صاحب المختار ” العقاب العقوبة وعاقبه بذنبه ، وعاقبه بعقبة فهو معاقب ،وعقيب أيضاً وتعقبه عاقبه بذنبه.

ويقول صاحب المصباح “وكل شىء جاء بعد شىء فقد عاقبه ، وعقبة تعقيبا وعاقبت اللص معاقية وعقاباً “.

 

يقو ل “القرطبى ” فى تقسيرة ” العقاب مأخوذ من العقب ……… فالعقاب والعقوبة يكونان بعقب الذنب وقد عاقيه بذنبه”.

وتعرف العقوبة فى الإصطلاح بأنها : هى جزاء وضعه الشارع للردع عن ارتكاب مانهى عنه وترك ما أمر به ، فهى جزاء مادى مفروض سلفاً يجعل المكلف يحجم عن ارتكاب الجريمة ، فإذا ارتكبها زجر بالعقوبة حتى لا يعاود ارتكابها مرة اخرى كما يكون عبرة لغيرة.

فالعقوبات موانع قبل الفعل زواجر بعده فالعلم بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل ، وايقاعها بعده يمنع من العودة اليه.

يقول الماواردى :” الحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر وترك ما أمر لما فى الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الأخرة بعاجل لذة ن فجعل الله من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذراً من ألم العقوبة وخيفة من نكال الفضيحة ليكون ما حظر من محارمه ممنوعاً ، وما أمر به من فروضه متبوعاً فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم …..”.

وجاء فى مجموع الفتاوى لابن تيمية ” العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله تعالى بعباده فهى صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم . لهذا ينبغى لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة بهم كما يقصد الولد تأديب ولده وكما يقصد الطبيب معالجة المريض ”

العقوبات فى الشريعة الإسلامية منها ماهو مقدر كالحدود ومنها ماترك تقديره لولى الأمر حسب ظروف الحال وما تقتضيه المصلحة وتسمى بالتعزير.

ويمكن إجمال أغراض العقوبه فى غرضين : غرض قريب وغرض بعيد

فالغرض القريب أو العاجل هو إيلام المجرم لمنعه من العودة إلى ارتكاب الجريمة ومنع الغير من الإقتداء به

والغرض البعيد أو الآجل هو حماية مصلحة المجتمع ، و شفاء نفس وقلب المعتدى عليه. وذلك حين يرى أن من اعتدى عليه قد وقع عليه العقاب المناسب .

مفهوم الجريمة فى الإسلام

أصل كلمة جريمة من جرم بمعنى كسب وقطع ، وخصصت هذه الكلمة منذ القدم إلى الإشارة إلى الكسب المكروه غير المستحسن يقول تعالى ” وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ” ولا يجرمنكم معناها هنا لا يحملنكم أو يدفعكم

ولذلك يمكن إطلاق لفظ الجريمة على كل فعل يمثل إعتداءا أو مخالفة للحق وخروجا على الطريق المستقيم ، ومن ذلك اشتق أجرم ، وأجرموا . قال تعالى ” « إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون »

فالجريمة فى معناها اللغوى تتنتهى إلى أنها فعل الأمر الذى لا يستحسن ويستهجن وأن المجرم هو ذلك الشخص الذى يقع فى أمر غير مستحسن مصرا عليه مستمرا عليه مستمرا ولا يحاول تركه ، بل لا يرضى بتركه ، فمعنى وصفه بالمجرم يقتضى استمراره فى الفعل المجرم واصراره عليه.

وأحكام الشريعة فى ذاتها مستحسنة بمقتضى اتفاقها مع الشرع و الفطرة السوية والعقل السليم ، فالخروج عنها جريمة ، ذلك لأنه غير مستحسن بحكم الشرع وبمقتضى حكم العقل ، والعقل السليم تتفق قضاياه مع قضايا الشرع الإسلامى .

فالجريمة كتعريف عام هى ارتكاب فعل محرم معاقب على فعله أو ترك عما مأمور به معاقب على تركه ، وذلك التعريف يشمل كافة الجرائم سواء تلك التى تقرر لها عقابا أخرويا فقط أو تلك التى يعاقب عيها فى الدنيا والآخرة , ولذلك فالجرائم التى للقاضى سلطان بشأنها ، والمقرر لها عقاب دنيوى يطلق عليها الفقهاء كما يقول الماوردى ” إنها محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير”.

كما قسمت الجرائم فى التشريع الإسلامى بحسب ما قرر لها من عقاب فهناك جرائم الحدود وجرائم القتل والجرح (القصاص والدية) وجرائم التعزير ، وذلك يتلاقى مع تا ذهب اليه القانون الوضعى من تقسيم للجرائم بحسب العقوبة المقررة إلى جنايات ،وجنح ومخالفات، وهو مايعرف بالتقسيم الثلاثى للجريمة .

التقسيم الثلاثى للجرائم فى الشريعة الإسلامية

هذا التقسيم بنى على مقدار العقوبة قوة وضعفاً ،والعقوبة تتناسب مع قوة الإعتداء فى الجريمة قوة وضعفاً

أولا: الحدود

المقصود بالحدود وبيان ماهيتها

الحد فى اللغة عبارة عن المنع ،ومنه سمى البواب حدادا لمنعه الناس من الدخول ،ويقال حده كذا،منعه منه، ويسمى السجان حدادا لأنه يمنع من فى السجن من الخروج .

وسمى اللفظ الجامع المانع حداً لأنه يجمع معنى الشىء ويمنع دخول غيره فيه.،وسميت العقوبات حدودا لكونها مانعة من ارتكاب أسبابها

والحد فى الشرع عبارة عن عقوبة مقدرة واجبة حقاً لله تعالى عز وجل

كلمة مقدرة مقصود بها أن الشارع حدد كمها وكيفها سلفاّ بخلاف التعزير ، كما يقول ابن عابدين مقدره “أى مبينة بالكتاب والسنة والجماع.

(وكلمة حقاً لله ) تميزا لها عن القصاص الذى هو خق للعباد ، وحق الله يقترب من المفهوم الحديث حق المجتمع أو المصلحة العامة فالحدود شرعت لمصلحة تعود على كافة الناس من صيانة للأنساب والأموال والأنفس والأعراض.

والحد يطلق على الجريمة ذاتها كما يطلق على العقوبة عليها ، والحدود قوامها تمسك المجتمع بالفضيلة .

وجرائم الحدود هى الزنا ، القذف ، السرقة ، الحرابة ، الردة وشرب الخمر

 

1- حد الزنا

لقد حرم الله الزنا لما فيه من خطورة على المجتمع ، وصفها فى أكثر من موضع فى كتابه بالفاحشة ، ولأجل ذلك نظم الزواج وبين أحكامه ، ودعى الى التيسير لا المشقة ، حتى يغلق الباب أمام من تدفعه شهوته للفاحشة . وقد قال تعالى ” وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ”

ولما كان الأمر كذلك فإن الزنا إعتداء على المصلحة العامة فى المجتمع ، وإنتهاكاً لمصلحة معتبرة لدى الشرع وهى حفظ النسل ، وقررت الشريعة عقوبة زاجرة رادعة كى تحول دون إيجاد الباعث للجريمة ، فلا يرتكبها الإنسان ، لإ إن إرتكبها أنزلت عليه العقوبة كى تكون رادعة له فلا يعود لمثلها كما يعتبر غيره بها . فلا تسول له نفسه أن يقع فى المخالفة.

يقول تعالى ” الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ”(النور 2)

ويشترط لتطبيق الحد كما يقرر الفقهاء أن يككون مرتكب الجريمة بالغاً عاقلا، مسلماً ، غير مستكره ، وأن يقع فعل الزنا على أدمية ممن يوطأ مثلها.

ويثبت الزنا بالإعتراف أو الشهادة ، والإعتراف يجب أن يكون صادراً عن إرادة حرة معتبرة دون تهديد أو إكراه ، وأضاف الحنفية والحنابلة أن يتكرر الإعتراف أربع مرات فى مجالس مختلفة على أن يراجع فى كل مرة ، ولا يطبق عليه الحد إلا إذا كان مصرا على إقراره واعترافه، ولا يعتريه الجنون، أما الشهادة فلا تقبل إلا من أربعة رجال عدول يشهدون على معاينة وقعة الزنا بأركانها لا نقلا عن قول مرسل.

قال تعالى « والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء » وقوله ”

لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ”

2- حد القذف

ورد حد القذف فى كتاب الله تعالى فى قوله عز وجل « والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا »( النور- 4)

ويقصد بالقذف عند الفقهاء الرمى بالزنا ، ونفى النسب ، أو التعريض بذلك ، وتحريم القذف لما فيه من تحريض خفى أو ظاهر على شيوع الفاحشة ، وزعزة الثقة قى المسلمين والمسلمات ، كما أنه جهراً بالسوء ، فى وقت يبغى الإسلام فيه أن يكون المجتمع مشمولا بالفضيلة.

وجريمة القذف بالاتفاق تثبت بشهادة إثنين ، أو بإقرار بعد الدعوى ، وشهادة الحسبة لا تتأتى فيها ، ولا يعتبر المدعى أحد الشهود لان له مصلحة ، وهى الدفاع عن عرضه ونفى التهمة عن نفسه.

ولا بشترط تعدد الإقرار هنا ذلك لأن الإصرار عليه ليس بشرط ، فإعلان الإقرار ذاته لا يخلو من القذف إذ أنه بمجرد إقراره يكون قد إرتكب جريمة القذف التى تستوجب العقاب ، لأنه خاض فى أعراض المسلمين .

ويشترط فى القاذف العقل والبلوغ ، ويشترط فى المقذوف العقل والبلوغ والعفاف عما رمى به من زنا.

3- حد السرقة

إن من مقاصد التشريعة الإسلامى حفظ المال ، وتلك مصلحة من المصالح المعتبرة فى الشريعة ، ومقصد من مقاصدها ، لذلك يعاقب السارق بقطع اليد إعمالا لقولة تعالى « والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما »( المائدة 38).

ولتطبيق حد السرقة شروط متعددة فصلها وبينها الفقهاء ولقد قرروا أنه يجب توافر ما لا يقل عن أحد عشر شرطا لتطبيق حد السرقة .

4- حد الحرابة (الإفساد فى الأرض والإرهاب)

حد الحرابة هو القتل إذا ارتكب المجرب جريمة قتل ، ويكون الحد القتل مع الصلب إذا قتل وأخذ المال ،وأما إذا أخذ المال غصباً ولم يقتل كان حده القطع (قطع اليد مع الرجل دفعة واحدة من خلاف ) وإذا روع سبيل الأمنين وأخاف الناس دون قتل أو غصب لمال فحده أن ينفى من الأرض.

ولقد ورد النص على حد الحرابة فى قوله تعالى « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض »( المائدة 33)

5- حد الردة

سبق القول أن الإسلام كفل حرية العقيدة ، وليس فيه ولا فى دعوته جبر أو إكراه ، وإنما يريد ممن يدخله أن يتبعه عن قناعة ورضا ، وهو يعلم مسبقاً أنه إذا ارتضى ان ينضم إلى جماعة المسلمين ، فليس له بعد ذلك أن يقارقهم ويشذ عنهم ، وليس له أن يخرج من الدين بعد دخوله فيه . ذلك لأن مثل هذا الفعل يعتبر اعتداءا على الدين ، وهو فى أعلى المصالح التى حفظها الشرع .

وحد الردة هو القتل ، والردة هى الخروج من دين الإسلام بعد الدحول فيه .

6- حد الشرب

يقصد بالشرب هنا شرب الخمر ، وحد الشرب ثابت بالسنة الصحيحة ، والخمر محرم تحريما قاطعة لما فيه من إعتداء على العقل ، الذى هو مناط التكليف ، وما به فضل الإنسان على غيره من مخلوقات.

تطبيق الحدود وأثره على استقرار المجتمع

إن الإدعاء بأن الحدود تطبيقها لا يلائم العصر ولا يتفق مع المدنية الحديثة إدعاء قائم على تصور يشوبه القصور فى فهم النظام العقابى فى الإسلام ، فالحدود السابق الإشارة إليها تحمى مصالح المجتمع ، كما أنها محاطة بضمانات تجعل تطبيقها محدوداً وقاصرا على الحالات التى تهدد أمن المجتمع وتهدد مصالحة.

وإن كانت قاسية كما يدعى البعض ، فلينظر الجميع إلى معدلات الجريمة فى ظل تطبيق القوانين الوضعية ، وعدد الأرواح التى تزهق ،والأموال التى تسرق ، وما يتحمله المجتمع من مفاسد نتيجة ذلك.

ونذكر فى هذا المقام شهادة القانونى فارس الخورى إذ يقول ” تذكرون ولا شك عندما تضعون فى الموازنة العامة للدولة المباغ الطائلة التى تخصص للأمن العام ،والشرطة ،والدرك ،والمحاكم كرواتب ونفقات … فلو طبق الشرع الإسلامى وقطعت يد فى حلب مثلا … وجلد آخر فى دير الزور ورجم ثالث فى دمشق ، وكذلك فى بقيية المحافظات ، لإنقطع دبر هذه الجرائم ،ولتوفر ثلاثة أرباع الموازنة العامة ”

وإن استقرار المجتمعات لهو الهدف المنشود والتى ترمى اليه جميع السياسات ، وجميع النظم ، وتحاول بشتى السبل والمناهج لتحقيقه ، والناظر إلى المجتمعات المعاصرة ، يدرك ما تفعله ، وما تنشأه من أدوات وأجهزة ووسائل ، وما تستحدثه من فلسفات ومناهج واساليب ، يقوم بوضعها مؤسسات علمية ،وتربوية وفنية ، الى جانب الؤسسات السياسة والتشريعية والتنفيذية … ورغم كل ذلك وكل هذا الجهد فإن هذه المجتمعات المعاصرة – دون استثناء – تعانى فى المجال الإجتماعى إضطراباً شديداً وعدم استقرار يتمثل فى إنتشار الجريمة بكل صورها من سرقة وقتل وسطو وسرقة بالإكراه، وهتك للأعراض ،واغتصاب بالقوة ، بل واغتيالات جريئة فى تحدى لكل أجهزة الأمن القائمة.

ومن يرى كل هذه الوسائل التى تستخدم فى المجتمعات المعاصرة من أجل تحقيق الإستقرار ، ثم يجد هذه هى النتيجة حيث لا إستقرار ولا أمان بل باتت الجريمة ظاهرة طبيعية فى المجتمعات ، يدرك يقيناً قصور تلك الأدوات التى ارتكنت إليها المجتمعات المعاصرة.

وفلسفة العقاب فى التشريع الإسلامى فلسفة رائعة ، ذلك أنها راعت أن الإنسان يعيش صراعاً داخليا بين الشر والخير، ومن ثم جمعت الشريعة بين الترغيب والترهيب ، لأجل تقوية الباعث على الإقدام على الخير ، والإحجام عن الشر.

وإقامة الحدود تحمى مقومات الإنسان ، فمرادها حماية المقومات الضرورية لحياة الإنسان ، ذلك الإنسان الذى صوره الله بيده وكرمه وفضله.

وحياة الإنسان قوامها على مايعرف بالضرورات الخمس وهى مقومات الوجود للفرد وهى الدين – النفس- العقل – العرض- المال.

ولقد اتفقت سائر الديانات السماوية على تقديس هذه الحرمات ، بل شاركهم فى ذلك القوانين الوضعية فهاهى المادة الثانية من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان تنص على (أن الغاية من كل مجتمع سياسى هى حفظ الحقوق والحريات الطبيعية للإنسان) وإن كان الشريعة الإسلامية وضعت من القواعد والضوابط ما من شأنه أن يحافظ بحق وصدق على تلك المقومات ، ذلك لأن الحفاظ عليها ، هو أولى أولويات التشريع

الإسلامي، فحين تخلفت القوانين الوضعية ،ولم تستطع توفير الحماية الحقيقية لصيانة تلك الحقوق الطبيعية .

كما أن ترتيب تلك الحقوق يختلف فى الشريعة الإسلامية عنه فى الشرائع الوضعية ، فالدين أعز على المسلم وأقدس من كل ما عداه ، ثم تأتى بعد ذلك حرمة النفس ، ومن بعدها العقل ثم العرض ثم المال، وما الحدود إلا مانعا دون التجرأ على هذه الحقوق والحرمات.

ومع أهمية الحدود وأهمية تطبيقها إلا أنها محاطة بضمانات عجيبة تجعل من النادر تطبيقها ، وهو ما جعل علماء الشريعة يقولون “إن إدعاء القسوة والشدة فى حدود الشريعة الإسلامية ، مظهر من مظاهر السطحية فى فهمها ، بل الجهل العجيب بطبيعتها وأنظمتها وقيودها.

يعلم كل دارس للشريعة الإسلامية وعقوباتها أن ما يبدوا فى حدودها من القسوة ، لا يعدو أن يكون قسوة تهديد وتلويح ، فهو أسلوب تربوى وقائى أكثر من أن يكون عملاً انتقامياً أو علاجاً بعد الوقوع ، وهى بهذا تنطلق من أدق الأسس التربوية السليمة فى المجتمع.

وبإستقراء شروط إقامة كل حد من الحدود المقررة فماذا نرى ؟

فحد الزنا مثلاً أعلنت الشريعة أن الزانى المحصن يعاقب بالرجم ، وهو إعلان مخيف ، وتلويح بسلاح رهيب ولاشك ، لكن لننظر إلى ما اشترطه التشريع الإسلامى لتطبيق الحد فلقد اشترط لإيقاع هذه العقوبة أحد شرطين : الأعتراف القاطع الصريح ، أو شهادة أربعة شهود برؤية الفعل على حقيقته ، ويشترط جمهور الفقهاء أن تتفق شهادتهم ولا تتخالف.

ولنقف وقفة بتدبر أمام الشرطين سنجد أن هذا الحد شبه مستحيل ثبوته بغير الإعتراف والإقرار الصريح

الإقراركذلك نادر فمن ذا الذى سيذهب ليقر على نفسه بإثم ارتكبه ، مقرر له مثل هذه العقوبة ، اللهم إلا شخص تاب وأناب ، ودفعه ضميره الحى إلى أن يطهر عسى أن يكفر الله عنه ذنبه.

ثم إنه إذا أقر على نفسه فإن القاضى يجب أن يراجعه فى اقراره ، عسى أن يرجع عنه ، وحكاية ماعز رضى الله عنه كافية لبيان الحقيقة ، وكيف حاول صلى الله عليه وسلم مراجعته فى اقراره. وكيف نصحه بالتوبة والتستر .

واثبات مثل هذا الحد بشهادة الشهود أكثر ندرة بل هو شبه مستحيل ، فمن ذا الذى يرتكب مثل هذه الجريمة – هو يعلم بعقوبتها- دون أن يأخذ من الحيطة والحذر ، ويرتكبها على نحو يمكن أن تقع عليه أعين أربعة العدول مقبولى الشهادة .

وحسبك أن تعلم أن الشهود إن لم يكتملوا أربعة أو ظهر كذبهم اعتبروا متلبسين بجريمة قذف تستوجب عقابهم .

واذا ما ارتكب شخص جريمته هذه على هذا النحو من العلانية بحيث يراه أربعة رجال عدول ، يرون الفعل على حقيقته ، فإن ذلك يدل على تحد للمجتمع لا يقدم عليه إلا شخص لا يقيم للمجتمع وزناً . ولا يرعى له حرمة ، وهو بذلك يكون مستهين بكرامة الأمة وسمعة المجتمع ، وتصرف من هذا القبيل من شأنه أن ينشر وباء الفاحشة فى المجتمع كما تنتشر النار فى الهشيم .

ومن هنا ندرك أن مناط العقوبه وإقامة الحد ليس مجرد فعل الفاحشة ، وإنما الإستهانة بكرامة المجتمع وتلويث صفحته ، واشاعة الفاحشة فيه، وما يقال فى حد الزنا يقال فى باقى الحدود فلقد وضعت الشريعة شروطا وضمانات عديدة لتطبيقها .

كما أعلنت الشريعة الإسلامية أن الحدود تدرأ بالشبهات ، وهى قاعدة إسلامية أصيلة أجمع على الأخذ بها الفقهاء ، روى الترمزى عن عائشة رضى الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ادرؤا الحدود عن المسلمين بالشبهات فإن وجدتم مخرجاً فخلوا سبيله ، فإن الإمام لأن يخطىء فى العفو خير من أن يخطىء فى العقوبة”.

 

زر الذهاب إلى الأعلى