المعرفة بين القياس والأشواق
نشر بجريدة أخبار اليوم 25/7/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
لا يتوقف الإنسان العاقل المفكر عن قياس وتقييم الحياة والأحياء، بيد أننا حين نقيس الحياة كلها لكل الأحياء بمقاييس أزمنتنا نظلمها ونظلم البشر ذلك أن الحياة أقدم منا ومن وجودنا بكثير جداً.. وتطورات حياتنا التي نعيشها بأعمارنا المحدودة أقصر عمراً جداً من ماضينا بمراحله الماضية التي لا نعرف معظمها بل وربما جهلناها أو جهلنا بعضها جهلا تاما.. وأما ما لدينا الآن في زمننا وبين أيدينا مما يستوجب الإصلاح والتقويم والالتفات التام فلم يعد يمكن السكوت عليه، ذلك أن النقص الذي نعانيه هو اختفاء الإنسانية الفعلية اختفاءً يكاد يكون عاماً في جميع الطبقات، صاحبه ومن زمن عدم المبالاة بها حتى كأملٍ وغاية.. فلم نعد نقوى الآن وقد خبت أشياء كثيرة على محاولة جادة لتحقيق هذا الأمل وهذه الغاية، فكل خطوة منا إلى الأمام يعقبها خطوتان إلى الخلف !! فهل عجزنا حتى عن الأمل الجاد فضلاً عن المحاولة الجادة لتحقيقه ؟!!
من الواجب دائماً ملاحظة الفارق بين أشواقنا ومعارفنا، والأصل أن الأشواق دائما تسبق المعرفة أي معرفة حتى في حالات الإعادة والتكرار، وأن وجود الأشواق يستتبع استمرار زيادة المعرفة، وإذا توقفت الأشواق تراجعت المعرفة أو توقفت، وتوقف معها كل شيء هام في حياة الإنسان !
إن المعرفة اليقينية لكل شيء كان ويكون وسيكون ـ من المستحيلات.. لأن الإنسان جزء فقط من الكون.. وهذا ما لا تسلم به أشواق الآدمي.. لأنه مجرد طاقة تدفع غريزته إلى الفهم والمزيد من الفهم، ولأن المعرفة التقريبية أو الإحصائية وهي كل ما في استطاعتنا من الواقع الذي يعرفه أو يمكن أن يعرفه الإنسان لا تكـفي لإطفاء أشواقه.. لأنها معرفة لا تنفي الغيب والمجهول والجائز والمحتمل والمتصور والمتخيل، ولا ينقطع معها وجود المستقبل وانتظاره وتعلق الآمال والمخاوف به -فلن تنقطع أشواق الآدميين للمعرفة والمزيد من المعرفة قط- ولن يُشْفى غليلهم منها أبدا، ولن يكفوا عن الالتجاء للآمال والأماني والأحلام والتصورات والمخاوف والأوهام قط.
تورّمَ في التاريخ أشخاص لو درست تاريخهم بموضوعية وإمعان، لعرفت أن كلاًّ منهم مارس كل أنواع التفاهة والخداع والديماجوجية والانتهازية والتغرير واللعب بالإعلام وبمشاعر البسطاء ليصل إلى السلطة التي قفز عليها، فلما وصل إليها لم يستطع أن يكون عظيماً عظمة حقيقية تواكب مقتضيات ولوازم السلطة فانتهت حياته نهاية مأساوية ! لأنه ظل في جميع ممارساته مشدوداً لما اعتاده من أساليب وإن خدعت وفتحت الأبواب لركوب السلطة، إلاّ أنها لا تصادف ولا تصادق العظمة الحقيقية الضرورية الواجبة لممارستها وحسن إدارة وتصريف الأمور !
إننا نلهو ولا يفارقنا اللهو حين نَجِدّ، وهذا من مصادر بلائنا!.. نكتفى في الغالب الأغلب بالمريح السهل، نقبل عليه دون أن نتأكد من صحته، وربما نقدم عليه برغم مؤشرات واضحة لبطلانه، ولكن يصرفنا عن التوقف عندها أو يغرينا بتجاوزها وعدم الاتعاظ بأخطارها أن عوادمها وأضرارها لن تظهر إلاّ بعد أن نختفى من الوجود !.. فميولنا الموروثة من الآباء والأجداد ـ بمحبة العافية والراحة وإيثار السلامة، قد قللت قدراتنا على المثابرة والإخلاص !، وإلى اليوم لا يزال شعورنا بالعافية يسبق عقلنا.. العقل قد يخدم العافية، وقلما يقودها، ولكنه نادراً ما يسودها!
وقد قيل إن العلم لا يُعرف إلاّ بالعمل، والعمل لا يُعرف إلاّ بالإخلاص، والإخلاص لا يُعرف إلاّ بالصبر، ولا يُعرف الصبر إلاّ بالتسليم.
يبدو للمتأمل أن معظمنا الآن يستخف بالقيم الموروثة دينية وأخلاقية وعلمية، ويؤثر عليها معارف وأذواق وآداب وفلسفات ومذاهب العصر المسايرة اليوم لتتابع تقدم العلوم والكشوف الوضعية والفنون الجديدة مما لم يعرفه السابقون، وهذا الاستخفاف بالموروث والإقبال على معطيات العصر بأنواعها ينطوي في الواقع على مبالغة ومجازفة وربما مخاطرة ـ زادت وانتشرت معالمها فيما هو مألوف وسائد في عالمنا اليوم من غلبة التشاؤم وكثرة القلاقل والمشاكل !
في هذا الزمان، زماننا، لم يعد أحد يصبر على طلب العاجلة إيثاراً للآجلة وإن كانت أكرم وأفضل وأعظم وأبقى.. يتساقط الرجال وأشباه الرجال كأوراق الخريف طمعاً وجرياً وراء منصب أو موقع أو ترشيح أو مغنم أو سبوبة، مع أن ذات هذا الزمان الذي نعيش فيه، يرينا كل يوم مآل من تسابقوا وأسرفوا على أنفسهم وكرامتهم وعلى وطنهم وعلى الناس، وماذا صار بهم الحال حين غربت النجومية المصنوعة أو المصطنعة، وانحسرت الأضواء، وأحاط بهم السكون المطبق بلا مدد يعوضهم بذكريات تبل الخاطر، إلاَّ سكاكين الندم والخذلان.. تقطع في أحشائهم وتبرهن لهم بعد أن فات الأوان، أن الآجلة -لو فهموا وتفطنوا – كانت خيرًا لهم وللوطن.. وأبقى !!