المسئولية الفردية في الإسلام
المسئولية الفردية في الإسلام
نشر بجريدة الشروق الخميس 19/11/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يعنى الأستاذ العقاد بالمسئولية الفردية ـ شخصية المسئولية، وقد كان للأستاذ العقاد فضل إلقاء الضوء على شخصية المسئولية في الإسلام وإن لم يستخدم مبكرًا التعبير الاصطلاحي الذي صرنا نعرفه اليوم.
وقد تناول في هذا الفصل التبعة الفردية، والمسئولية الفردية، مبديًا أن فكرتها بسيطة ولكنها عميقة.
لم تكن فكرة المسئولية الفردية أو شخصية المسئولية، معروفة في عهود الحضارة الأولى، ولم تكن القبائل تعرف إلاّ شيخ القبيلة صاحب السلطان، ولا تعرف إلاَّ أن المسئولية عن أفعال أو أخطاء أو جرائم آحادها ـ تسأل عنها القبيلة بأكملها، وكثيرًا ما كانت الحروب تشجر بين القبائل وتشمل الكل، مع أن بدايتها منازعة أو خلاف بين شخصين.
وانتقلت هذه الفكرة في « تعميم » المسئولية من القبائل إلى الأسر، فصار الأب مسئولاً عن أبنائه، والمتبوع مسئولاً عن أعمال تابعه أو تابعيه، ودون تفطن إلى أن مسئولية الفرد يجب أن تكون عالقة به.
عرفت الهند من قديم نوعًا من المسئولية الفردية، ولكنها كانت تأخذ بأن الفرد يولد بأخطائه وجرائره وآثامه.
* * *
وشاع تعميم الخطأ وتحميله على غير صاحبه، في أسفار العهد القديم، وانتقى الأستاذ العقاد أمثلة لذلك من سفر التكوين، ومن سفر يشوع. وجاء في سفر التكوين أن « نوحًا شرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجًا.. فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير فقال ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته.. »، وجاء في سفر يشوع أن « عاخان » سرق من غنائم القتال في وقعة عاى فانهزم الإسرائيليون.. « وأجاب عاخان يشوع وقال حقًّا إنى قد أخطأت إلى الرب إله إسرائيل.. رأيت في الغنيمة رداءً شنعاريًّا نفيسًا ومئتي مثقال من الفضة ولسان ذهب وزنه خمسون مثقالاً فاشتهيتها وأخذتها وها هي مطمورة في الأرض وسط خيمتي والفضة تحتها.. فأخذ يشوع عاخان بن زارح والفضة والرداء ولسان الذهب وبنيه وبناته وبقره وحميره وغنمه وخيمته وكل ماله وجميع إسرائيل معه وصعدوا بهم وادي عجوز.. فقال يشوع : كيف كدرتنا يكدرك الرب في هذا اليوم، فرجمه جميع إسرائيل بالحجارة وأحرقوهم بالنار ورموهم بالحجارة وأقاموا فوقه رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم، فرجع الرب عن حمو غضبه ».
ومن هذا المفهوم شاع أن عصيان آدم تُسأل عنه البشرية بأسرها وبكل أجيالها، وظلت المفاهم على هذا النحو، حتى سمع العالم عن رسول القرآن ــ عليه الصلاة والسلام ــ أن
لا تكليف بمستحيل، ولا بغير بلاغ وعلم، فلا تحق التبعة على أحد في شرعة الإسلام، ما لم تبلغه الدعوة ويصله البلاغ في مسائل الغيب ومسائل الإيمان، أم في مجال العلاقات والمعاملات.. « وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ » ( فاطر 24 )..« مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً » (الإسراء 15).. ولا يُساءل الإنسان إلا على قدر استطاعته، فلا تكليف ـ عدلا ـ بمستحيل..« لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا » وكذا.. « وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ » ( المؤمنون 62 ) ومن الظلم الذي نبه القرآن المجيد إلى نبذه وتلافيه، أن يُحَمَّل المرء بوزر أو خطأ غيره.. الإنسان في القرآن هو المخلوق المسئول.. هذه المسئولية محكومة بضوابطها ، وأولها أن مصير الإنسان معلق بيده وفعله، لا يسأل إلاّ عما يبدر منه، ولا يُسأل عن فعل غيره.. إذا أصاب فاز بثواب ما أصاب فيه، وإذا أخطأ لحقت به ـ دون سواه ـ جريرة خطيئته.. يقول الحكم العدل « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ » ( الإسراء 13 ).. « كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ » ( الطور21).. يثاب الإنسان وينجو بعمله لا بالوساطة ولا بشفاعة كهان أو أحبار أو رهبان.. يحمل وزره لا وزر غيره..« وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى » (الأنعام 164، فاطر 18، الإسراء 15، النجم 38، 39).. في القرآن أيضا : « فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » (الزلزلة 7، 8)..
ومن هذا النبع، عرفت الشرائع الوضعية مبدأ شخصية المسئولية.
الكعبة
دعا الأستاذ العقاد إلى كتابة هذا الفصل، تعدد الكعبات في تاريخ العرب الديني، وكان في الجزيرة العربية عدة بيوت مشهورة، بيت الأقيصر، وبيت ذي الخلصة، وبيت صنعاء، وبيت رضاء، وبيت نجران، وأشهرها وأبقاها بيت « مكة ».
وبعد مقدمة وجيزة عن هذه البيوت، انتقل إلى اسم الكعبة، وما ذهب إليه المؤرخون من مذاهب شتى في تسمية الكعبة بهذا الاسم، فمنهم من عزاه إلى التكعيب، ومنهم من قال إن الكلمة مستمدة من اللغة الرومية، وقال آخرون بل كان بناؤها بالحبشة، إلاّ أن ما لا يجوز فيه الشك أن « البيوت الحرام » وجدت في الجزيرة العربية لأنها كانت لازمة لعبادات ومعبودات موروثة.
ويذكر الأستاذ العقاد أنه اجتمع لبيت « مكة » ما لم يجتمع لبيت آخر في أنحاء الجزيرة، حيث كانت مكة ملتقى القوافل بين الجنوب والشمال وبين الشرق والغرب، وكانت لازمة لمن يحمل تجارة اليمن إلى الشام، ولمن يعود بتجارة الشام إلى شواطئ الجنوب.
وكانت مكة عربية لجميع العرب، ولم تكن كسروية ولا قيصرية ولا تبعية ولا نجاشية. ولقد حاول بعض الدول الاستغناء عنها بتحويل الطريق عنها أو هدم كعبتها فلم تفلح، وبقيت لها مكانتها وقداستها كما كانت من أقدم عهودها، وهى أسبق في وجودها لكتابة أسفار العهد القديم في التوراة، وهى « ميشا »، التي يقول الرحالة « برتون » إنها كانت مقصدًا لعبادة أناس من الهند، ويقول الرحالون الشرقيون إنها كانت كذلك بيتًا مقصودًا للصابئين الذين أقاموا في جنوب العراق قبل الميلاد بعشرة قرون.
ومن هذه المحاولات التاريخية المشهورة لهدمها ـ محاولة عام الفيل، ومحاولة عثمان بن الحويرث أن يضم مكة إلى حوزة الروم، وأن تستولى دولة الروم من ثم على تجارة المشرق.
والحبشة كانت تخشى نفوذ الفرس في الروم، وتلقى معونة من دولة الروم على مقاتلة التبابعة اليمانيين، وكانت الحبشة تَحْذَر دولة الروم لأنها كانت تملك الوصول إليها من وادي النيل فضلاً عن أنها كانت تملك طريق البحر الأحمر في نهايته القصوى. وكانت دولة الروم وراء الغزوة التي انتهت بهزيمة « ذي نواس » ملك اليمن، فاقتحم البحر بجواده ليغرق
فيه، وكشف « أبرهة » عن غايته بعد التمكن من اليمن وشواطئها، فبنى « القليس » في صنعاء، ومن الجائز أن تكون هذه الكلمة مصحفة من كلمة «الكليس» بمعنى التكليس عن الطلاء.
وقيل فيما قيل إن أناسًا من العرب كانوا يذهبون إلى الكعبة الجديدة ليدنسوها، وأن سيدًا من سادات تميم فعل ذلك وتحدى أربابها، وكان من جراء ذلك هجوم أبرهة على مكة في عام الفيل.
وكانت هناك محاولة أخرى من محاولات السياسة الخفية لتمليك سيد من العرب على مكة يدين بالولاء لدولة الروم، وتثبت تينك المحاولتان، قيام كعبة الحجاز على كره من ذوي السلطات في الجنوب.
على أن الكعبة حفظت مكانتها رغم خلو مكة من العروش الغالبة على أنحاء الجزيرة، بل هي قد استطاعت ذلك لخلوها من العروش.
قداسة الكعبة
الأساس المهم الذي قامت عليه مكانة البيت المكي، ينصرف إلى البيت ذاته لا إلى ما يوضع فيه من أوثان وأصنام، فكانت القداسة له لا إلى ما يشتمل عليه. بل ولم تكن الأصنام الموضوعة فيه محل تعظيم عام، فكان البعض يعظم وثنًا، وآخرون يزدرونه ـ وعلى ذلك كانت تختلف الشعائر والدعاوى التي يدعيها كلٌ لصنمه ووثنه، وكان يتفق أن يجتمع بالبيت في موسم الحج أناس أخذوا بأشتات متفرقة من المجوسية واليهودية والنصرانية وعبادات الأمم الأخرى، ولكن بقيت للبيت ذاته قداسته وتعظيمه، يتفق على ذلك الجميع.