المحامي الأشهر.. إبراهيم الهلباوى (8)
بقلم : الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 27/9/2021
تدل مراجعة الحركة الوطنية من أوليات القرن الماضى ، بدءًا من مصطفى كامل ومحمد فريد ــــ على أن المحاماة ، والحقوقيين بعامة ـ كانوا المحرك الحقيقى الفاعل المؤثر فى الحركة الوطنية .. وجودهم حاضر ظاهر جلى فى كافة المشاهد المتتابعة عبر النضال الطويل الذى خاضته الأمة .. لست أعنى بذلك أن كلهم كانوا من معدن ، أو نجوا جميعًا من الهنّات أو الأخطاء فى الأفكار أو التقديرات أو التوجهات .. فهذه كلها ظواهر بشرية حادثة وتحدث وستحدث ، بيد أن الباقى من هؤلاء ، كان فيهم زخم وإرهاصات هذه الحركة الوطنية التى قادت الأمة إلى تجاوز إخفاق الثورة العرابية ثم إلى التمهيد لثورة 1919 ثم إلى الخلاص من نير الاستعمار والاحتلال ، وإلى عودة حكم البلاد إلى بنيها الذين أصابوا وأخطأوا مثل ما يصيب الناس ويخطئون ، ولكن يبقى أن امتلاك المصرى لمقاديره ـ أخطأ أم أصاب ـ هو المقدمة الضرورية لمسار سفينة الوطن التى طال بها التخبط وسط العواصف والأعاصير والمظالم والاستغلال والامتصاص الذى باشره الحكم الأجنبى باختلاف صوره وحكامه .
ومنذ طفق الهلباوى يؤدى دوره الوطنى بكثافة ـــ اضطلع بكثير من القضايا الوطنية ، ومن القضايا الوطنية الكبرى قضيتا نزاهة الحكم اللتين وقف فيهما الهلباوى شامخًا يدافع عن الأستاذ حفنى محمود الذى حشد رجال الحكم من الوزراء والكبراء لعقابه عن السب والقذف فى حقهم ، وانتهز محاموهم فرصة تقدمه بطلب رد رئيس المحكمة ، مع أنه طلب مشروع مادام يستند إلى أسباب ولا يتردى فى الإهانة وخدش الاعتبار ، ولكنهم وجدوها فرصة ليدمغوه بأنه وقد سب بعض الوزراء الكبار ، فها هو الآن يسب القضاء ، بزعم أن طلب الرد فى ذاته قذفٌ فى حق القضاء .
وهنا تتجلى براعة وموهبة الهلباوى ، وحضور بديهته ، وقوة حجته ، فقد طفق يبدى أن المتهم ـ حفنى بك محمود ـ وقد انخلع فؤاده من الاتهام ، وما تردد عن التربص به فى الدعوى ، أقدم على طلب الحقيقة عارية والعدالة مجردة ، كيما يطمئن قلبه . أليس فى سبيل هذا الاطمئنان سأل موسى عليه السلام ربه أن يراه ـ سبحانه ـ حتى يطمئن قلبه ، وفى ذلك يروى القرآن المجيد « قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ » ( الأعراف 143 ) .
وما سأله حفنى محمود ، سأله من هو أسمى منه ألف مرة ، وسأله لله تعالى الذى
لا يقاس به مخلوق أيًّا كان من مخلوقاته .
فى تلك القضية استمرت مرافعة الهلباوى أياما ، وتروى جريدة السياسة فى صدر صفحات أعدادها اعتبارًا من 18 أبريل 1935 ، كيف تحتشد قاعة المحكمة من بواكير الصباح ، من كافة الفئات والمنازل والأعمار ، لتستمع إلى مرافعة الهلباوى التى تخلب الألباب .
يصف محرر السياسة ما ألفاه قائلاً : « بكرت أمس إلى المحكمة فدلفت إلى قاعة الجلسة وفى ظنى أنه لم يسبقنى إليها أحد ولشد ما كانت دهشتى حين شاهدت حضرة صاحب المعالى ولى جعفر باشا وقد تصدر مقعد المحامين يطالع صحيفة الصباح ، وتلفت فإذا سيدات من كرائم العقيلات وآنسات من الأسر الطيبة قد شفع لهن جنسهن اللطيف فى الدخول قبل موعد فتح الباب العمومى ، وحين بلغت الساعة التاسعة فُتحت أبواب القاعة فإذا سيل من الناس يندفع اندفاع الماء الذى طال انحباسه ، وما هى إلاّ دقائق خمس حتى ملئت القاعة ، ولم يبق فيها موضع ، وأنفق رجال البوليس ، مجهودًا كبيرًا لكى يذودوا الطامعين عن مجالس المحامين .. وفى منتصف الساعة العاشرة دخلت هيئة المحكمة ووقف شيخ المحامين يزين مفرقه جلال المشيب وارتفعت قامته المديدة فكأنما ضربت للحق والعدل قبَّة هو عمادها فسكتت الأصوات وأرهفت الآذان ، حتى لا تفوتها منه لحظة وبدأ هو يتكلم ، بصوت خافت ولم يزل يرتفع شيئًا فشيئًا حتى يجلجل صوته ويسمو بمعانيه فتسمو معه الأرواح ، ثم يهبط بها تدريجيًّا ليرفه عن النفوس بملحة أو طرفة وهكذا انقضت أربع ساعات بين التحويم والتحليق ، ما شعر السامعون بسأم ولا أدركهم ملال … »
بداهة من المحال أن أنقل فى هذا الحيز ، تلك المرافعات التى امتدت أيامًا ، ولكن حسبنا أن نتعرف على تأثيرها فى رحاب القضاء ، وفى وجدان الناس الذين هاموا عشقًا للهلباوى ، وقد سمعوه فى اليوم الأول لمرافعته يجاهد قائلاً : « ماذا كان موقفنا من الحكومة ؟ اتهمناها ونتهمها لغاية اليوم ، أن حكمها كان غير نزيه فقد وجد من تصرفاتها ما يدعو إلى الريبة فى أنها تعمل للمصلحة العامة وأنها تفضل المصلحة الخاصة على المصلحة العامة ، وأنا مستمر على هذه العقيدة إلى اليوم . فهل هذا سب وقذف ؟! .
خمس سنوات ونحن نتقد الحكومة ، نقول إنها : خرّبت البلد ولم تراع المصلحة العامة ، أفسدت الأخلاق فكل ما جاء بعد ذلك صورة من هذه الصور ودليل من أدلتها . إن النيابة تريد التشهير بنا ونحن إنما قصدنا الطعن على نزاهة الحكم ، وهذه الوقائع كلها أدلة على صحة التهم التى وجهناها إلى الحكومة»
وطفق يهاجم التحقيق مع المتهم ـ حفنى محمود ـ فى أيام العيد ، خلافًا للأصول والقواعد والأعراف ، متسائلاً « لماذا يستدعى المتهم ويُحقق معه فى يوم عيد ، تغلق فيه كافة دواوين الحكومة ، ويمضيه كافة الموظفين فى أجازة يستمتعون فيها بالعيد ، فما هو السبب ، وما هى الغاية ، من اللجوء إلى هذا الأسلوب . إن المحكوم عليهم بالإعدام لا تنفذ عليهم العقوبة فى أيام العيد ، وإذا تنفذ فى هذه الأيام المباركة اعتُبر جريمة » .