المحامى الأشهر إبراهيم الهلباوى (9) 

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 4/10/2021

ـــ

بقلم: الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين

 

يمكنك أن تقول إن مرافعة الهلباوى التى استمرت أيامًا في قضيتى نزاهة الحكم , كانت محاكمة لنظام الحكم آنذاك , استبان فيها أن ثقافته كانت متعددة الجوانب , ثرية المعانى , إلى جوار بلاغته وقوة حضوره وتأثير مرافعته .

لم يورد الهلباوى ما أورده لمجرد الإسادة والتجريح , وإنما سعيًا لإثبات صحة ما تناوله حفنى محمود في مقالاته محل المساءلة , فصحة ما نعاه على الحكومة ووزرائها , تخرج بالمنسوب إليه من دائرة القذف المؤثّم , إلى دائرة النقد المباح .. وفى ذلك قال الهلباوى : « القاذف إذا استطاع أن يثبت أنه كان منتقدًا , فلا عقاب عليه . ويظهر أن حضرت النائب من رأيه أن القاذف لا ترفع مسئوليته إلاَّ إذا أثبت صحة قذفه ثبوتًا تامًّا , وإلاَّ لا يقبل منه ».

« هذا هو رأى النائب والمدعين بالحق المدنى , ولكنه رأى تمجه البداهة والمصلحة العامة , والفائدة من الصحافة , وحفنى قدم أدلته , قولوا لنا فيم تشتغلون من فبراير الماضى , أما نحن فنعمل لإثبات هذه الأدلة : صحيحة أم لا : هل الصحفى إذا وصله خبر , وجب عليه أن يحققه بمحكمة وبوليس ؟! , هذا تعطيل للصحافة : يكفى القاضى لحماية الصحفى , أن يثبت أنه عندما نشر كان يعتقد بصحة ما نشر : هذا هو كل ما يُطلب من الصحفى .. ومركز الصحفى كمركز الطبيب الذى يقتل مريضًا أثناء عملية جراحية يكفى أن يثبت للقاضى أنه كان حسن النية , أما إذا ثبت أنه كان مخطئًا متعمدًا فهنا تختلف النتيجة ؛ فمركزى وأنا في مهمة عامة في حكم التقديس , إذا جاءنى خبر , ورأيته محتمل التصديق واعتقدته فلا عقاب على نشره » .

وتجلّت ضلاعة الهلباوى في تعدد وعمق الموضوعات التى تناولها , ليخرج بإثبات صحتها من دائرة القذف المجرّم , إلى باحة النقد المباح .

فتراه يخصص جانبًا من مرافعته , لإزاحة الستار عن كثير من أسرار تاريخ حزب الأمة وتاريخ حزب الأحرار الدستوريين الذى هو امتداد لحزب الأمة ، ومن بين ما ذكره : أن صحيفة « الجريدة » التى كان يصدرها حزب الأمه قد أوشكت على الإفلاس ، وأن محمود سليمان باشا وعلى شعراوى باشا قد دفعا سته آلاف جنيه , وأن الآلاف الأربعة الأخرى قد أصبح دفعها واجبًا على عدد من المحامين الشبان الذين ينتمون إلى الحزب , كما روى الهلباوى فى مرافعته بعض أسرار ثورة 1919 ومواقف عبد العزيز فهمى , وعلى شعراوى , ومحمود سليمان ومحمد محمود .

ويقفى بكيف أن دستور إسماعيل صدقى ـ قصقص حقوق الشعب , بل اغتصب حقوق الشعب , وأنكر أن الدستور حق لا منحة .

وسواء كان الدستور منحة , أو حقًا , لا يجوز لك أن تسلبنى حقًا من هذه الحقوق , التى رتبها الدستور لى وإلاَّ كنت مجرمًا أثيمًا : ثرنا على الدستور الجديد ولم نعترف به .

ويشرح الهلباوى بعض الأساليب , التى استخدمها إسماعيل صدقى فى الانتخابات وكيف أصبحت الانتخابات تجرى فى ثلاثة أيام بالرغم من أنه أنقص عدد الدوائر من 230 إلى 150 ولا معارض ولا منافس لحزب الشعب , وحزب الاتحاد , لأنهم يريدون أن يحكموا بالحديد والنار .

قال المدعون إننا أفسدنا الموظفين بالاستعانة بهم فى نشر فضائح رؤسائهم , وأن هذه جاسوسية . لا هذه ولا تلك : هذه ليست جاسوسية , وإنما هى مهمة مقدسة , وهى أول أسس الأخلاق الفاضلة , وعنوان حضارة الأمم , وهى أساس رقى الصحافة وقيامها على المصالح العامة , وهذا يقتضيها البحث عن المصادر ما استطاعت , إن التفتيش فى « أعمال » الموظف وكشف عوراته من أقدس الواجبات . ومع ذلك فإن صحافتنا لا تزال فى هذا المجال طفلةً تحبو.

وعن إضاعة الحكومة « واحة جغبوب » , طفق يقول إنه بعد مقتل السردار ، كان لإيطاليا مشروع لرسم حدودها بين مصر وطرابلس ، وأدخلت واحة جغبوب فى تلك الحدود التى تزعمها ، وسبق للجنة رسمية أن حسمت كذب هذا الإدعاء ، ولكن الطليان انتهزوا فرصة أن الحكومة قائمة من غير برلمان ، وطلبوا من زيور باشا أن يفاوضهم ويصدق لهم ، على أن جغبوب لإيطاليا ، وكان زيور باشا قبل ذلك وزير خارجية فى وزارة سعد باشا ، التى رفضت هذا العرض ، ولما تعيّن زيور باشا رئيس وزارة طلبوا منه الطلب من جديد ، ويجب علينا ألاّ ننسى 6 ديسمبر 1925 لأن هذا التاريخ هو الذى نُزعت فيه جغبوب ، من أرض مصر ، جغبوب كانت مكة التى يحج إليها المصريون ، صحيح أن إيطاليا بلد صديقة لنا , ولكن يعزّ علينا أن حكومة مصرية تسلم بسهولة هذه القطعة الغالية من أرض مصر : حدث هذا من وزارة مصرية كانت تحكم بلا برلمان فهل حدث مثله فى وزارة محمد محمود ؟ عقد البرلمان بعد ذلك ورأينا عقد زيور باشا الخاص بجغبوب ، فماذا يفعل ؟ سأل البرلمان فعرفوا أن البلد راحت فعلاً والعلم الطليانى رفع على جغبوب ووادى جغبوب فماذا يفعل البرلمان ؟ كل حيلته أن يتحين الفرص ويترك الأمر للمستقبل : وإذا كنا اليوم ضعافًا فقد يأتى يوم نستطيع استردادها ، هذه حيلة الضعيف ، واكتفى البرلمان بأنـه لم يوافق على هذا : سلاح المحتفظ بحاله .

يقولون إن مصر لم تخسر بترك جغبوب ، وإذا كان هذا صحيحًا فلماذا تتمسك إيطاليا بها ؟!

زر الذهاب إلى الأعلى