المحامى الأشهر إبراهيم الهلباوى (6)
نشر بجريدة الأهرام الأثنين 13/9/2021
بقلم: الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين
البعض يتعجل الحكم على الهلباوى ، رافضًا إياه رفضًا نهائيًا لسقطة دنشواى ، ولا شك أنها سقطة كبيرة ، ولكن الحياة تتسع للغفران ، وهو سبيل « العودة » إلى الصواب والمحجة البيضاء ، من يتأمل فى الإسلام ، يرى كيف فتح أبوابه لقبول النافرين ، وأوسع صدره للغفران عمن أخطأوا ، فاتحًا بذلك ما أسميه « طريق العودة » . وأعنى به طريق العودة إلى السواء . وأمثلة هذا فى تاريخ الإسلام عديدة . خالد بن الوليد لم يسلم هو وعمرو بن العاص إلاَّ فى العام الثامن من الهجرة ، ومع ذلك كان إيمانهما وإخلاصهما وخدمتهما وجهادهما للإسلام مضرب الأمثال ، وليس مثل خالد الذى حمى الإسلام من المرتدين ، ومن الرومان ، واستحق لقب « سيف الله » الذى أضفاه عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وهو عائد بالمسلمين من مؤتة التى هُزِمَ فيها المسلمون ، وحماهم خالد بخطته الرائعة فى الانسحاب .
وعكرمة بن أبى جهل ، لم يسلم إلاَّ بعد الفتح ، ففتح الإسلام باحتة له ، فإذا به القائد المظفر والفدائى مضرب الأمثال ، الذى أوفى بحق الإسلام حتى قتل شهيدًا وهو ينافح عنه على حدود الجزيرة العربية مع الشام .
وسوف نرى أن للهلباوى أعمالاً وطنية رائعة ، إنْ لم تمسح السقطة الكبرى ، فإنها جديرة بأن نعرفها له ، وأن نعرف الثمن الكبير الذى دفعه واحتمل تبعاته للتكفير عن ذلك الخطأ الفادح !
فى عام 1909 ، وقف إبراهيم الهلباوى موقفًا صلبًا فى صف كل القوى الوطنية التى انبرت للاعتراض والتظاهر ضد مشروع قانون المطبوعات الذى تبنت الحكومة إصداره ، بما تضمنه من تكبيل لحرية الصحافة ، وقبضت السلطات على عدد كبير من الصحفيين والمتظاهرين ، وطلب المقبوض عليهم من الطلبة بقيادة أحمد حلمى صاحب جريدة « القطر المصرى » ــ طلبوا أن يترافع الهلباوى للدفاع عنهم ، برغم أنهم سبق أن تظاهروا ضده بسبب موقفه فى دنشواى .
وسط هؤلاء الشباب ، وهم من شباب الحزب الوطنى القديم ، وسطوا إليه الأستاذ أحمد لطفى السيد بك ليتولى الدفاع عن الأستاذ أحمد حلمى ( جد الأستاذ صلاح جاهين ) أحد كتاب الحزب وأحد واصفى يوم التنفيذ فى دنشواى ، وكان قد اتهم فى قضية صحفية يمس الدفاع فيها ذات الخديو ، وهـم يخشون رفضه لما غمزته به أقلامهم ولاتصاله بالخديو ، فقبل الهلباوى القضية قائلاً ، ليس قبولى لهذه القضية بحاجة إلى وساطة .
وانطلق ناظر الأوقاف ، إلى مستشار الأوقاف ، يستنكر منه وهو محامى الخديو ، أن يحضر ضد الخديو ! .. قال : لست حاضراً إلاّ عن متهم !
فجاءه ناظر الخارجية « حسين رشدى باشا » ، فصمم .
فدعاه ناظر النظار فصمم ، قالا لقد كنا نفكر فى أن نستصدر عفواً عن أخيك المحكوم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة ، لكن تصميمك يجعل الطريق شاقة !..
قال : الآن زال شكى وسأترافع …
ترافع الهلباوى عن المتهم ، وهو عالم بما سيفقده ، لكنه لم يبال بموقعه ومرتباته واتصالاته ، وحرية أخيه !.. من أجل حرية المتهم .
وصدق حدس من اختاروه ، فقد وقف الهلباوى بجواره أحمد حلمى ورفاقه بشدة ، إذ كان يؤمن بقدسية حرية الصحافة ، ومقاومة أى اعتداء يصادر عليها ، ومن ثم وقف كذلك ضد قانون المطبوعات الذى اعتبره أداة هدم لهذه الحرية .
ومما يحسب للهلباوى أنه لم يحد عن رفضه رغم التلويح له بالعفو عن شقيقه الذى كان سجينًا ، وتمسك بموقفه دون أن يبالى بمخاطر ملاحقة الحكومة التى كانت ناقمة على
« أحمد حلمى » ، لمهاجمته عائلة محمد على برمتها فضلاً عن الخديوى ، ومطالبته بأن يتولى مصرى حكم مصر .
لم يأبه الهلباوى بالضرر الذى يمكن أن يلحق به , لا سيما وأنه منذ عام 1893 كان مستشارًا للخاصة الخديوية إلى جانب كونه مستشارًا للأوقاف الخصوصية ومستشارًا لديوان عموم الأوقاف , وذلك إيمانًا منه بأن المحامى من الممكن ألا يخضع فى واجبه لمصلحة خاصة حتى ولو فى ذلك إغضاب لولى الأمر .
امتد الضغط على « الهلباوى » بالتلويح بحرمانه من امتيازاته التى يتقاضاها من الوظائف التابعة للخديوى , فرفض التراجع مفضلًا استقالته واستمر فى الدفاع عن المتظاهرين فى قضية قانون المطبوعات حتى حصلوا على البراءة .
فلم تمض أسابيع حتى شكلت لجنة لفحص قضايا الأوقاف ، لمعرفة هل تستحق القضايا ما يدفع عنها من الأتعاب ، ففهم ولم يضيع عليهم وقتهم .. واستقال ليبقى فى مصر عنواناً على الشجاعة . وضماناً ضد السلطة !
يقول الهلباوى : « إنى معتقد أن واجب المحاماة كثيراً ما يعرض صاحبه إلى الخطر وإنى كنت ولا زلت أعتقد بأن صناعتى شبيهة ، إلى حد ما ، بالعسكرى المجاهـد ، وهو فى الخندق يقدم نفسه ضحية لوطنه » .
وكان أن أثمرت مواقف الهلباوى الوطنية ، أن بدأ الوطنيون يفتحون معه صفحة جديدة , فاستعانوا به للدفاع عنهم فى القضايا السياسية ابتداء من حادثة بطرس باشا غالى فى 20 فبراير 1910 , فلقد حرص إبراهيم الوردانى أن يكون الهلباوى محاميًا عنه .
كانت فرصة مواتيه للهلباوى لكى يصالح الوطنين , فهاجم فى مرافعته المحكمة المخصوصة , واعترف بأنه نال من الغضب ما نال غيره من الذين اشتركوا فيها . ثم وضع هيئة المحكمة فى مأزق حينما طبع مذكرته للدفاع كاملة , ووزع نسخًا منها قبيل الجلسة وأثنائها , بينما قررت المحكمة فجأة جعل الجلسة سرية , عندما تناول الدوافع السياسة التى من أجلها أقدم الوردانى على اغتيال كبير النظار .