المحامى الأشهر إبراهيم الهلباوى (11) 

بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين، رئيس اتحاد المحامين العرب

نشر بجريدة الأهرام الأثنين 18/10/2021

من حق من يتابع صفحات الهلباوى الوطنية بعد دنشواى ، أن يتساءل : هل كان انحيازه للحركة الوطنية ، ذلك الانحياز الظاهر ، نابعًا من قلبه وعقيدته ومبادئه ،

أم كان مجرد مداراة للاعتذار عن دوره فى محاكمة دنشواى ، لتبييض صفحته أمام الرأى العام .

وأستطيع أن أؤكد من دراستى لمسيرته ، أنه كان صادق النية والعزم فى وقوفه مع الحركة الوطنية ، وقوفًا نابعًا من قلبه وعقيدته ومبادئه . تأكد لى ذلك من مراجعة مواقفه وسيرته قبل دنشواى ، فرأيته وطنيًّا من قمة رأسه إلى أخمص قدميه ، مما يدل على أن سقطة دنشواى كانت « خارج السياق » لاعتبارات أخطأ ـ بحسن نية ـ فى تقديرها .

فى عام 1896 ، قبل دنشواى بسنوات ، شجرت أزمة عنيفة بين كتشنر والشيخ على يوسف صاحب جريدة المؤيد لسان حال الحركة الوطنية ، بسبب نشرها لبرقية وافاها بصورتها عامل التلغراف توفيق كيرلس صادرة من اللورد كتشنر سردار الجيش المصرى عن أحوال الحملة على « دنقلة » بالسودان ، وتضمنت البرقية عدد الوفيات والإصابات فى الحملة فى كل من « كروسكو » و « حَلْفا » ، فثارت ثائرة كتشنر وسلطات الاحتلال ، وأحالت إلى النيابة العامة كلاًّ من عامل التلغراف والشيخ على يوسف صاحب المؤيد وناشر البرقية ، بيد أن وكيل النيابة محمد فريد شهيد الوطنية ، جَاهَر بتعاطفه ومال إلى حفظ القضية ، وازداد الموقف اشتعالاً وفرضت سلطات الاحتلال إرادتها وتم إحالة الدعوى للمحاكمة أمام محكمة عابدين .

ويبدو أن محمد فريد لم يكن الوحيد من المصريين المتعاطف مع الشيخ على يوسف وعامل التلغراف ، وهنا يروى الأستاذ إبراهيم الهلباوى فى مذكراته أنه كان بأجازة يمضيها مع أسرته فى جنيف ، فجاءه رسول من القاهرة موفد لاستدعائه إلى مصر للدفاع عن الشيخ على يوسف ، فلبى النداء ، وعاد سريعًا وعائلته إلى الوطن .

واضطلع بالدفاع عن المتهمين : الأستاذ الهلباوى ، والأستاذ أحمد بك الحسينى من الرعيل الأول للمحامين ، ويوم الجلسة 19/11/1896 ازدحمت القاعة عن آخرها ، وحضرها كثير من رجال القضاء وأعضاء النيابة ، كما حضرها عبد الخالق ثروت باشا مندوبًا من المستشار القضائى « محمود بك خيرت » .

استعرض الأستاذ الهلباوى فى مرافعته تصرفات النيابة وما فرط منها من انتهاك حرمات المساكن وتوجيه أسئلة عرضت للشبهة والمظان السيئة كتصرفها مع والدة وشقيقة توفيق كيرلس ، وعند شرح هذه التصرفات إشتد عطف الجمهور ، بل لم يستطع القاضى نفسه إخفاء تأثره ، ولما نطقت المحكمة ببراءة الشيخ على يوسف والحكم بثلاثة شهور على عامل التلغراف ؛ علا صياح الناس وهتافهم لاستقلال وعدل القضاء .

استأنفت النيابة حكم البراءة . كما استأنف توفيق كيرلس حكم العقوبة ، وترافع الهلباوى والحسينى أمام محكمة الاستئناف ، وكانت الجلسة برئاسة على باشا ذو الفقار وبعضوية المستشارين المستر كمرون الإنجليزى ، ويوسف بك شوقى ، وحجزت المحكمة الدعوى للحكم بعد المداولة ، وكان الجمهور الذى حضر للنظر فيما يتم فى القضية يملأ ساحات المحكمة الداخلية ويحيط بجوانبها من كل جهة ، وطالت المداولة على غير العادة عدة ساعات وخرجت المحكمة بتأييد الحكم الابتدائى ، ولم يستطع المستر كمرن عند النطق بالحكم لم يستطع إخفاء غضبه حتى استبان فى وجهه أنه لم يكن موافقًا على حكم البراءة .

ما دار فى الداخل ، رواه شهيد الوطنية محمد بك فريد فى مذكراته ، فأكد أن القاضى الإنجليزى احتد على القاضيين الوطنيين ، واتهمهما بأنهما حضرا الحكم قبل الجلسة بإيعاز من الخديو واشتد الخلاف حتى امتنع الإنجليزى عن حضور تلاوة الحكم ، لولا حضور بليغ باشا رئيس الاستئناف الذى وفَّقَ بينهم واقتنع الإنجليزى بضرورة الانصياع للأغلبية فخرج وحضر التلاوة رغم أنفه …

ومن صفحات الأستاذ الهلباوى التى تحسب له ، أنه أهرع إليه جماعة من شباب الحزب الوطنى ، موسطين الأستاذ « أحمد لطفى السيد بك » ليتولى الدفاع عن

« أحمد حلمى » ( جد الأستاذ صلاح جاهين ) أحد كتاب الحزب و واصفى يوم التنفيذ فى دنشواى ، وكان قد اتهم فى قضية صحفية يمس الدفاع فيها ذات الخديو ، وهـم يخشون رفضه لما غمزته به أقلامهم ولاتصاله بالخديو ، فقبل الهلباوى القضية قائلاً ، ليس قبولى لهذه القضية بحاجة إلى وساطة .

وانطلق ناظر الأوقاف ، إلى الهلباوى مستشار الأوقاف ، يستنكر منه وهو محامى الخديو ، أن يحضر ضد الخديو ! .. قال : لست حاضراً إلاَّ عن متهم !

فجاءه ناظر الخارجية « حسين رشدى باشا » ، وذكر له أن الخديو مستاء من قبوله هذه القضية ، ولكنه صمم .

فدعاه ناظر النظار بطرس باشا غالى ، ولكنه صمم ، فقال له بطرس باشا لقد كنا نفكر فى أن نستصدر عفواً عن أخيك المحكوم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة ، لكن تصميمك يجعل الطريق شاقة !..

قال : الآن زال شكى وسأترافع …

ترافع الهلباوى عن المتهم ، وهو عالم بما سيفقده ، لكنه لم يبال بموقعه ومرتباته واتصالاته ، وحرية أخيه !

فلم تمض أسابيع حتى شكلت لجنة لفحص قضايا الأوقاف ، لمعرفة هل تستحق القضايا ما يدفع عنها من الأتعاب ، ففهم ولم يضيع عليهم وقتهم .. واستقال ليبقى فى مصر عنواناً على الشجاعة . وضماناً ضد السلطة !

عن فهم الهلباوى لفروسية المحاماة ، قال فى مذكراته :

« أنا معتقد أن واجب المحاماة كثيراً ما يعرض صاحبه إلى الخطر وإنى كنت ولا زلت أعتقد بأن صناعتى شبيهة ، إلى حد ما ، بالعسكرى المجاهـد ، وهو فى الخندق يقدم نفسه ضحية لوطنه » ..

وما أبداه الأستاذ الهلباوى صحيح كل الصحة ، فرسالة المحاماة تفرض على المحامى خصومات تهدده فى مصالحة ، وهو ما حدث للهلباوى ، وقد تهدده فى حياته ، وما حدث للمحامين من قطع رقابهم على المقصلة فى الثورة الفرنسية جزاء دفاعهم ، أبلغ دليل على ذلك !

أشرف زهران

صحفي مصري، حاصل على بكالريوس إعلام، ومحرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين، ومكتب النقيب،
زر الذهاب إلى الأعلى