اللغة الأصولية واللغة القانونية (صنوان لا يفترقان)

اللغة الأصولية واللغة القانونية (صنوان لا يفترقان)

 [فصول في “اللُّغة القانونية”(الفصل 7)]

بقلم: الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية

إنه لا مناص من تضلع القانونيين بـــــــــ” اللغة الأصولية” لكي يبلغوا درجة الرسوخ في “اللغة القانونية “، فبقدر همتك في تحصيل قواعد تلك “اللغة الأصولية” وحوز مبادئها بقدر ما تكون من الراسخين في “اللغة القانونية”، فهذه الأخيرة تبنى على مبادئ الأولى وتسترفدُ منها وتأخذُ عنها منذ نشأة القانون الوضعي ( 1805م ) حتى يومنا هذا، ولم لا و”اللغة الأصولية” ضاربة في القدم منذ أصَّل الشافعيُّ لها (ت205)ووضع بذرتها في كتابه العظيم ” الرسالة “.

نقصد بـــ”اللغة الأصولية” تلك اللغة التي تُعنى بتنظيم الأحكام الشرعية وخاصة في المعاملات سواء الشرعية أم الحياتية وفي تنظيم الحقوق بين الناس سواء بالتعاقد أم التداين وبغير ذلك…، وهي كذلك لغة الجنايات في الإسلام سواء الحدود أو القصاص أو التعزير، وهي لغة القضاء وكتَّاب العدل ووثائق الوقف والوصايا، وهي أيضا لغة الدواوين والخراج والمراسلات الرسمية في الدولة الإسلامية قديما…. وهي لغة الحُجَّاب والمحتسبين والولاة والسلاطين والقادة وجميع مسئولي النظام الإداري ودواوينه….

وهي أيضا تلك اللغة التي ابتكرها الفقهاء فأسموها “لغة الفقه” على حدِّ ما ذكره النووي (أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676هـ) في كتابه الفذ “تهذيب الأسماء واللغات ” وهذا الكتاب مع كتب ستة أخرى هم مصدر ومعين هذه اللغة الأصولية وهذه الكتب الستة هي على ما يذكرها النووي “مختصر أبى إبراهيم المزنى”، و”المهذب”، و”التنبيه”، و”الوسيط”، و”الوجيز”، و”الروضة”، وهو الكتاب الذي اختصرته – الكلام للنووي – من شرح الوجيز للإمام أبى القاسم الرافعي، رحمه الله. [ النووي : تهذيب الأسماء واللغات (1/ 3) ط دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان عدد الأجزاء: 4 ]

ثم إن الأصوليين نظَّروا لها ووضعوا لها من المبادئ والأصول ما رسخ لها أعرافا وحصنها بقواعد كلية لا يجوز الخروج عليها، وذلك في مبحثهم العظيم :” القواعد الأصولية اللغوية” في كافة مؤلفاتهم في ” أصول الفقه”.

وترتبط “اللغة القانونية” بــــ”اللغة الأصولية ” بُعرى وثيقة لا تنفصم ولا تنقضي، ولم لا و”اللغة الأصولية” هي مصدر ومورد اللغة القانونية في الفهم والتفسير والاستنباط، فليس ثم لغة غيرها تنافسها أو تقاربها سواء أكانت لغة قانونية عامة أو لغة وضعية خاصة – حتى الآن – في فهم النصوص القانونية وفي عمليات تفسيرها واستنباط الدلالات و واستخلاص الأحكام منها، ثم إن القضاة الشرعيين والأصوليين هم من قام رفقة المترجمين والمبتعثين من القانونيين بصياغة كثير من أصول القانون الوضعي على نحو ما سبق ذكره في مقالات ( فصول في اللغة القانونية، على نحو ما سبق نشره 1-6 ).

وللتقريب المباشر فإننا نلحظ بعد البعثة النبوية وبعد ظهور الإسلام بقرابة مائتي عام مذ تاريخ وفاة الشافعي 205ه صاحب كتاب “الرسالة ” في أصول الفقه، فمنذ ابتدرها بفكره وابتدعها بفائق تضلعه الأصولي واللغوي وقد توافر علماء والشريعة على تأصيل علم جديد لا عهد للسابقين به ألا وهو “علم الأصول”.

ويعرفونه بأنه: “القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة ” وغايته “ضبط وتنظيم استخراج الأحكام من أدلتها التفصيلية”، وهذا الأول يسمى علم الأصول، أو ” علم أصول الفقه “، وذلك الثاني هو ” علم الفقه” وهو: “العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من الأدلة التفصيلية”.

وبفحص علم الأصول سوف نقف على أنه توليفة معرفية متجانسة من الأصول الشرعية والأصول العقلية والأصول اللغوية، والأصل عندهم هو ما يبنى عليه غيره، وهو الأساس والقاعدة العريضة..، وغايتها أن تعين الفقهاء والقضاة الشرعيين وكل من تأهل للاجتهاد وتهيأ للنظر والاستمداد المباشر من النصوص ( نصوص القرآن الكريم وأحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – ) على الفهم والاستنباط ومعرفة الأحكام والمقاصد، وقد توافقوا – أي الأصوليون – في إجماع أو شبه إجماع على وجوب معرفتها واشتراط الإلمام بها.

وكما هو ملاحظ أنهم :

1- اشترطوا الإلمام بعلم الأصول، وثلثه تقريبا “قواعد لغوية” إلا أنها “قواعد أصولية لغوية” بمعنى أنها قواعد مستخلصة بمنهجية مخصوصة لهذا العلم تتميز عن قواعد اللغة العربية – كما هي معروفة في عموم علوم اللغة – في تنظيمها الأصولي فوصفت بـ”الأصولية”، وفي غايتها لفهم الأحكام عن الله وعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –

2- فرقوا ما بين “اللغة العربية” في علومها وقواعدها ومعارفها وما بين “القواعد الأصولية اللغوية” على رغم أن هذه الأخيرة استخلاص منظم من تلك اللغة العربية، وثلث هذا العلم يدور حول القواعد الأصولية اللغوية – كما سبق ذكره -، واشترطوا على المتصدر للفهم عن الله في القضاء أو الفتيا أو الاجتهاد أن يلم بكليهما. دون استغناء بإحداهما عن الأخرى.

ولا أُبْعد إن قلتُ إنه لم يَرِد مطلقا عن أمة من الأمم أنها فعلت مثل هذا الفعل أو قاربته في التحوط لفهم نصوصها التشريعية، واستنباط الأحكام عنها (أقول هذا بعد إدامة النظر والمتابعة، وبعد تخصص عميق في فلسفة القيم مكنتني من التأريخ للفكر القيمي والعناية بكل المذاهب القديمة والمعاصرة في ذلك، وذلك مودع مفصل في رسالتي للدكتوراه عن القيم الخلقية بين المنهجين الوضعي الحديث والمعاصر والمنهج المعياري – جامعة القاهرة 2005م. ).

فقاموا على استخلاص أهم مواردها وأقرب قواعدها للنصوص الشريعة وقعدوا لمبحث فريد ليس له مثيل في غيره من الأمم – على ما دلت عليه بعض الدراسات – وهو مبحث :” لغة الأصول “، أو ” لغة فهم أحكام النصوص “، أو “لغة استخلاص الأحكام من النصوص “، أو ” لغة الاجتهاد “…، وهو ما أسموه ” القواعد الأصولية اللغوية ” هذا على الرغم من عظيم وعيهم بعلوم اللغة العربية وعلى فائق إلمامهم بقواعدها وآدابها وسننها….

ولهذا ما له من الدلالات… التي يمكن استخلاصها، ومنها :

1-يقينهم أن اللغة هي جوهر الأحكام وشكلها وقالبها ولازمتها بالضرورة، إضافة إلى معرفتهم بطبيعة اللغة العربية وسعتها وقدراتها الهائلة ومكناتها الفائقة، فلم يكتفوا بإطلاق القول بوجوب تعلمها قدر المستطاع وإنما استخلصوا منها أقربها لفهم النصوص وألزمها للمجتهدين والقضاة.

2- حرصهم على فهم مراد النص والحفاظ على أحكام الشريعة ومعانيها وأن هذا هو جوهر الدين وعماده، فأولوا عناية خاصة وفريدة بقواعد الفهم والاستنباط باعتبارها الأصل والضامن لفهم هذه الأحكام فهما صحيحا وسداً للذرائع عن الضلال في فهم النصوص وعن التأويل الفاسد للمعاني والاعتساف في التفسير باسم اللغة وبأدواتها.

3- تحوطا عن وقوع الخلط أو الخطأ في فهم النصوص وفي استنباط الأحكام منها ورصدا للمتهرين في اللغة والذين يمكنهم أن يخرجوا بتفسيرات وتخريجات تغير من أصول الدين وحقيقة الاعتقاد مثل ما فعل بعض الخوارج ومثل ما فعل الباطنية، وغيرهم من المذاهب المخالفة..!!

وهؤلاء الأصوليون العظام يذكروننا في ذلك بفلاسفة اليونان وأساطينهم الذين عنوا بالفلسفة عناية فائقة لا تضاهيها عناية أيٍّ من الأمم حتى اخترعوا المنطق الذي ظل مهيمنا على البشرية لأكثر من ألف سنة، فكذلك كانت عناية الفقهاء والأصوليين المسلمين بلغة القانون ” لغة الشريعة والأحكام” عناية غير مسبوقة يضرب بها الأمثال، بل زد على ما سبق أنهم أوجبوا وجوبا وفرضوا فرض عين على كل من ولي القضاء وتصدر للإفتاء أو رام أن يعد من أهل الاجتهاد الإلمام بهذه اللغة الأصولية فضلا عن إلمامه قدر ما استطاع من علوم اللغة العربية ونصوصهم في هذا كثيرة، بل لهم مصنفات مفردة في ذلك مثل آداب طلب العلم وفي التفقه وفي الفتوى والقضاء كلها مجمعة على وجوب هذه اللغة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى