القضاء الجنائي الحي

مقال بقلم الدكتور أشرف نجيب الدريني

هل يمكن أن يتحول الطفل من متهم بالاتجار في المخدرات إلى ضحية لجريمة أبشع في نظر العدالة؟ وهل يمكن للقاضي أن يقرأ وراء الأوراق الرسمية ليكتشف الحقيقة الإنسانية المختبئة خلفها؟ وهل يستطيع القانون، حينما يُفعّل بروح حية، أن يكون أداة لحماية المستضعفين لا مجرد سيف مسلط عليهم؟ هذه التساؤلات التي قد تبدو جدلية أو أقرب إلى الفلسفة النظرية وجدت جوابها العملي في حكم تاريخي أصدرته محكمة الطفل بالمنصورة، برئاسة القاضي أحمد صبح، والذي لم يكن مجرد تطبيق لنصوص جامدة، بل كان تجسيدًا لفكرة طالما سعيت لإبرازها في كتابي “القانون الجنائي الحي”، وهي أن القانون ليس مجموعة من المواد الصماء، وإنما كيان حي يتفاعل مع الواقع الاجتماعي والثقافي ويعيد إنتاج العدالة في ضوء ما يطرأ من تحولات.

فالقضية لم تكن مجرد جناية في أوراقها اتهام لطفلين لم يبلغا الثامنة عشرة بالاتجار في المخدرات وحيازة سلاح، بل كانت صورة مكثفة لأزمة إنسانية: أم محبوسة، أب متخلٍّ عن مسؤولياته، طفلة قاصر زُوّجت قبل أوانها، وأخت صغيرة ترافق شقيقيها إلى المحكمة لغياب أي عائل. في وسط هذا الانهيار الأسري، ظهر تاجر مخدرات خبيث استغل هشاشة وضع الطفلين وحاجتهما للمال، فحوّلهما إلى أدوات في مشروعه الإجرامي. هنا بدا الطفلان في ظاهر الأوراق متهمين، لكن المحكمة رأت فيهما شيئًا مختلفًا: ضحيتين لجريمة اتجار بالبشر.

هذا التحول في توصيف القضية لم يكن مغامرة قضائية، بل كان ممارسة فعلية لفكرة القانون الجنائي الحي التي تقوم على أن العدالة لا تُختزل في صرامة النصوص، وإنما في قراءتها بروحها وجوهرها، وفي استحضار الظروف الاجتماعية التي تُنتج الجريمة. فالقاضي أحمد صبح لم يقف عند ما انتهت إليه النيابة العامة، بل مارس سلطته في التحقيق بنفسه، واستدعى الشهود، وأجرى المواجهات، ثم توصّل إلى أن الركن المعنوي لجريمة الاتجار في المخدرات لم يثبت بحق الطفلين، لأن إرادتهما لم تكن حرة بل خاضعة لاستغلال مباشر. وبذلك انهار النموذج القانوني للجريمة، وسقطت التهمة.

لكن الأهم أن الحكم لم يتوقف عند البراءة فحسب، بل تجاوزها إلى صياغة رؤية شاملة للعدالة. فقد اعتبرت المحكمة أحد الطفلين “معرضًا للخطر” فأودعته دار رعاية اجتماعية لا كعقوبة بل كحماية، وأحالت الأوراق إلى النيابة للتحقيق مع المجرمين الحقيقيين الذين استغلوا الأطفال وزوّجوا أختهم القاصر، في جريمة الاتجار بالبشر. هنا يظهر بجلاء ما نادت به في القانون الجنائي الحي: أن القضاء ليس فقط مرفقًا للفصل في النزاعات، بل مؤسسة أخلاقية واجتماعية تسعى إلى معالجة الجذور لا الاكتفاء بسطح الظواهر.

العدالة الحيّة، كما يتجسد معناها في هذا الحكم، تعني أن نرى في الطفل الجانح مشروع ضحية لظروف اجتماعية قبل أن نراه مشروع مجرم. وأن نفهم أن الجنوح في الطفولة ليس نتاجًا لطبيعة شريرة، وإنما انعكاس لضغوط أسرية واقتصادية، وأن وظيفة العدالة ليست أن تجرّ الأطفال إلى السجون بل أن تفتح أمامهم باب الإصلاح والحماية. وهذا هو جوهر ما كتبته في القانون الجنائي الحي: أن القاضي، بروحه ووعيه، هو الذي يمنح النصوص حياتها ويجعلها متفاعلة مع المجتمع، فيصبح القانون مرآة للإنسان لا جدارًا يفصله عنه.

إن ما فعله القاضي أحمد صبح يُعيد الاعتبار لدور القضاء كضمير المجتمع. فقد رفض أن يكون أسير أوراق معدة سلفًا، وقرأ الدعوى بعين ناقدة وبصيرة حيّة، ليعيد رسم ملامحها على نحو أكثر إنصافًا. لقد جسّد أن هيبة القضاء لا تكمن في البطش ولا في إصدار الأحكام الثقيلة، بل في إنصاف الضعيف وكبح الظالم، وفي جعل القانون وسيلة لبناء الثقة بين الناس ودولتهم، بحيث يعتصمون به لا منه.

من هنا، نفهم أن العدالة ليست محض تطبيق آلي للنصوص، وإنما هي فعل إنساني عميق يرتكز على بصيرة القاضي الذي يحيي النصوص بالروح التي كُتبت من أجلها: حماية الإنسان. هذه هي الفلسفة التي سعيت إلى صياغتها وتفصيلها في القانون الجنائي الحي، وها هو القضاء المصري يقدم لنا نموذجًا حيًا يجسدها في ساحة الواقع.

لقد بدأت القصة بتساؤلات عن إمكانية أن يكون الطفل المتهم ضحية، وعن قدرة القاضي على أن يقرأ ما وراء الأوراق، وعن إمكانية أن يتجلى في القانون بعده الإنساني، وانتهت القصة بإجابة عملية: نعم، العدالة يمكن أن تكون حيّة، والقانون يمكن أن يحيا بروح قاضٍ عادل، والطفل يمكن أن يتحول من متهم إلى ضحية تستحق الحماية. هذا هو جوهر العدالة، وتلك هي رسالتها الخالدة. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى