الفلسفة القرآنية
الفلسفة القرآنية
نشر بجريدة الشروق الخميس 24/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
هذا هو عنوان واحد من أروع مؤلفات الأستاذ العقاد في العقيدة الإسلامية، صدر سنة 1947 في نفس السنة التي أخرج فيها رائعته « الله ».. بحث في نشأة العقيدة الإلهية، تخاطفته بعد صدوره دور النشر، فتعددت طبعاته، وكان أحد الدرر التي تناولتها له في « مدينة العقاد ».
موضوع هذا الكتاب هو صلاح العقيدة الإسلامية ــ أو الفلسفة القرآنية، لحياة الجماعات البشرية في كل مكان، وفي كل مصر. من يدينون بالإسلام يستمدون منه حاجتهم من الدين الذي لا غنى عنه للإنسان، وكم استمددت منه شخصيًا لأعمق رؤيتي للعقيدة الإسلامية في مبادئها الأصيلة وغايتها الكبرى.
وليس للعلماء ولا الفلاسفة أن يطلبوا من الدين غير هذا.
إن الإيمان ضرورة كونية، لا تخلقها مشيئة فرد، ولو كان في قدرة الرسل والأنبياء.
فإذا ما أجمع الناس على اختلافهم في الجنس والزمن والموطن والمصلحة ـ على الاعتقاد ـ فليس هذا الاعتقاد عمل فرد، ولا هو مما يقع بين الحين والحين عرضًا واتفاقًا، ولكنه باعث من صميم قوى الكون، وما كان الرسل والأنبياء يفلحون في نشر دعوته ما لم يكن في تلك الدعوة مطابقة لحكمة الخلق وسر التكوين.
هناك من يبطلون الأديان في العصر الحديث باسم الفلسفة المادية، فإذا بهم في تأييد دعواهم يستعيرون من الدين كل خاصة من خواصه، وكل لازمة من لوازمه.. ولا يستغنون عما فيه من عناصر الإيمان والاعتقاد.
والفحوى من العبر البالغة التي يسوقها الأستاذ العقاد ـ أن أسرار العقيدة أعمق وأصدق مما يدور بأوهام منكريها، وأنها ذخيرة من القوة وحوافز الحياة تمد الجماعات البشرية بزاد صالح لا تستمده من غيرها، وأن هذه الذخيرة « الضرورية » لم تخلق عبثًا وإنما لتعمل عملها.
وفي هذا العصر الذي تتصارع فيه معانى الحياة بين الإيمان والتعطيل، وبين الروح والمادة، وبين الأمل واليأس، تلوذ الجماعات الإسلامية بعقيدتها المثلى.. هذه العقيدة التي تعطيها كل ما يعطيه الدين من خير، ولا تحرمها شيئًا من خيرات العلم والحضارة ـ وهذا ما يسعى إلى بيانه هذا الكتاب.
القرآن والعلم.
لا يفوت القارئ اللبيب لماذا بدأ الأستاذ العقاد بالعلم، فهذه البداية تعكس إيمانه بالعلم، وبمكانة العلم ـ والتفكير ـ في الإسلام، وبالدور التنويري الذي عنى به في بسط جوهر الإسلام.
البداية تستهل بواقع لا يغيب، أن العلوم الإنسانية تتجدد وتتقدم وتتطور مع الزمن، ولا تزال بين ناقص يتم، أو غامض يتضح، أو مفرق يتجمع، أو خطأ يقترب من الصواب، أو تخمين يترقى إلى اليقين. ولا يندر أن تتقوض بعض القواعد العلمية بعد رسوخ أو ثقة.
فيها، أو تتزعزع بعد ثبوت، ليستأنف الباحثون البحث والنظر والتجارب التي قد تسفر عن جديد يخالف ما اعتبر من الحقائق المفروغ منها لعدة قرون.
ولذلك، وهنا مكمن رسالة الأستاذ العقاد، فإنه لا يُطْلَب من كتب العقيدة أن تطابق مسائل العلم، لأن حقائق العلم متغيرة متجددة لا يُطْلَب من الدين أن يقدم لكل « مرحلة » أو « خطوة » لباسها، فهذا ضار بالعلم وبالدين معًا، وضرره بالعلم مفهوم، فقد ينطوي تدخل الدين على مصادرة له، أما ضرره بالدين فيتمثل في الخروج به عن وظيفته وتحويله إلى دفتر أحوال معرض للأخذ والرد والانتقاص والزيادة، أو الحذف والإضافة، وليس هذا هو الدين، ولا يمكن أن يكون.
وخذ مثالاً ما دار حول كروية الأرض، أو حول دورانها، أو حول المركز في المجموعة الشمسية ـ أو حول غير ذلك من الموضوعات التي من الخطأ إقحام الدين فيها لتتهرأ قواعده من ناحية، وليصادر على العلم واكتشافاته وتطوره من ناحية أخرى.
حسب الدين ما استشهد به الأستاذ العقاد من القرآن، أن يعظ المخالفين ويحث على التفكير ولا يصادره، فيقول الحكيم الخبير في كتابه المبين :
« إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ » ( آل عمران 190، 191 ).
« أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى » ( الروم 8 ).
« قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا » ( سبأ 46 ).
« كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ » ( البقرة 266 ).
« وَتِلْكَ الأَْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ » ( الحشر 21 ).
« وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » ( التوبة 11 ).
« قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ » ( الأنعام 98 ).
* * *
ولا يرتفع المسلم بفضيلة كما يرتفع بفضيلة العلم :
« يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ » ( المجادلة 11 ).
« قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ » ( الزمر 9 ).
ولا يسأل المسلم ربه نعمة أقوم وألزم من العلم :
« وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا » ( طه 114 ).
« إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء » ( فاطر 28 ).
وعلى ذلك، فإن القرآن الكريم يطابق العلم أو يوافق العلوم الطبيعية بهذا المعنى، وهو المعنى الذي تستقيم به العقيدة، ولا يصادر الفكر والعلم أو يتعرض للنقائض والظنون كلما تبدلت المعلومات المتاحة أو تتابعت الكشوف.
فضيلة الإسلام الكبرى أنه يفتح أبواب المعرفة، ويحث الناس على التقدم فيها ـ وقبول المستحدث منها ـ لا أن يقعدهم عن البحث والطلب وتجديد أدوات الكشف ووسائل التحصيل والبحث والنظر في جميع العلوم.
الأسباب والخلق
لكل شيء سبب، ما في ذلك خلاف !
ولكن ما هو السبب ؟
هل هو مُوِجد الشيء الذي خلقه ولولاه لم يخلق ؟
أو هو حادث سابق للشيء أو مقترن به يلازمه كلما حدث على نسق واحد ؟
بهذه التساؤلات يستفتح الأستاذ العقاد موضوعه للحديث عن الأسباب والخلق.
أما عن أن السبب هو موجد الشيء، فيمنعه في العقل اعتراضات قوية كأقوى ما يكون الاعتراض في المسائل الفكرية.
وكل ما يقرره العقل وهو واثق منه ـ أن سبب الشيء يسبقه أو يقترن به كلما حدث على نسق واحد.
ولكن مجرد السبق لا يستلزم الاستيجاد وبالضرورة.. والضوء قد يسبق الصوت ولا يكون سببًا له، كقذيفة المدفع وقذائف الصواريخ.. وكصياح الديكة قبل طلوع النهار.. وآلاف الأمثلة.
كذلك فإن التلازم بين الأسباب والنتائج في وقائع الطبيعة ليس تلازمًا عقليًا كتلازم المقدمات والنتائج في القضايا العقلية، وإنما قد يكون تلازم المشاهدة والإحصاء..
فكل ما يسمى بالأسباب الطبيعية إنما هو مقارنات في الحدوث، ولا تفسير فيها أمام العقل لتعليل الإيجاد.
وهنا يتوقف الأستاذ العقاد ليتمثل بأقوال للغزالي ونيوتن والفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم.
والخلاصة التي انتهي إليها أن العقل ينتهي في مسألة الأسباب إلى نتيجة واحدة تصح عنده بعد كل نتيجة، وهي أن الأسباب ليست هي « مُوجدات » الحوادث، ولا هي مقدمة عليها بقوة تخصها دون سائر الموجودات، ولكنها مقارنات تصاحب ولا تغنى عن تقديم « المصدر الأول » لجميع الأسباب وجميع الكائنات.
وهذا هو حكم القرآن الكريم.
هناك سنة في الطبيعة « سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا » (الأحزاب 38)، « وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً » ( الأحزاب 62 ).
والخلق كله مرجعه إلى إرادة الله.. أو إلى حكمة الله..
« إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » ( يس 82 )
وكل شيء في السماء والأرض بإذن الله.
« وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » (الأعراف 57).
الحوادث كبيرها وصغيرها لا يمكن أن تحدث إلاَّ بأمر الله.
وتأتى هنا مسألة المعجزات، فما هي، وما موقعها من التفكير السليم ؟
المعجزة معجزة بمقاييسنا الإنسانية، ولكنها ليست بمعجزة في قدرة الله تعالى وإرادته، وقد رد سبحانه كل الأسباب إلى إرادته وإذنه.. أليس أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له « كن فيكون »، فكيف يمكن أن يكون معجزة ما أمر به سبحانه وتعالى أن يكون، فكان ؟
سبحانه وتعالى، إليه مرجع كل شيء.