الغش التجارى بين التشريع وموت الضمائر
بقلم: الدكتور فرج الخلفاوي
تزايدت في الآونة الأخيرة ظاهرة الغش التِّجاري نتيجة التقدم العلمي المذهل في شتئ مجالات العلوم، وأصبحت هذه الظاهرة ظاهرة عالمية واسعة الانتشار، والغش التِّجاري مفهومٌ واسعٌ يشمل جميع الممارسات غير المشروعة التي تهدف إلى تحقيق ربح ومنفعة من خلال التحايل على القانون أو خداع المستهلك وبشكل يضر بالمصالح المشروعة للآخرين، ويشمل هذا المفهوم وصفًا واسعًا من الممارسات في القطاعات المتعلقة بالسلع والخدمات.
وتُعَدُّ السلع المغشوشة والمقلدة مرضًا يهدد الاقتصاد الوطني وصحة الإنسان، وتنتشر في كافَّة أنحاء الدولة كالنار في الهشيم دون رادعٍ يوقفها، الأمر الذي فاقم من خطورتها، خاصة مع تزايد الإقبال عليها بعلم أو بدون علم، مع ضعف القوانين الرادعة للمتاجرين فيها، وضعف التنسيق بين الجهات الرقابية المعنية بها، ولا يوجد دولة في العالم تخلو من هذه الظاهرة الخطيرة التي بدأت تستفحل كثيرا في العالم، ولكن حجمها في دولنا أكبر بكثير؛ لذلك فمن الضروري التصدي لهذه الظاهرة والعمل على محاربتها من أجل حماية المجتمعات والمحافظة على متانة الاقتصاد الوطني؛ الأمر الذي يتطلب جهدًا مضاعفًا لمواجهة هذه الظاهرة.
ويرتبط الغش بوصفه سلوكًا إجراميًّا بانعدام القيم واختلال الضمائر، حيث يظهر حين يتدهور الكيان الديني والأخلاقي للإنسان وحين تطغى المادة والمصلحة ويغيب الصدق والأمانة في المعاملات بين الأفراد، والغش ظاهرة تستحق يقظة المشرع لردعه؛ حفاظًا على سلامة المجتمع وأمنه.
ولقد تفاقمت ظاهرة الغش التِّجاري نتيجة الانفتاح الاقتصادي وحرية المعاملات التجاريَّة والصناعيَّة وزيادة المنتجات الصناعيَّة مع نشوء طبقة تسعى فقط إلى تحقيق الربح غير المشروع وبأية وسيلة إضرارًا بصحة الآدميين عن طريق الاتجار بالمواد الغذائيَّة والعقاقير الطبية والحاصلات الزراعية الفاسدة؛ مما أدى إلى وجود نوع من الغدر بالمستهلك.
والغش التِّجاري ظاهرة ذات أبعاد اقتصاديَّة واجتماعيَّة أفرزتها حركة التطور التي لحقت مختلف جوانب الحياة التجاريَّة والاستهلاكيَّة، فكما أن للتطور آثارا إيجابية على الأفراد والمجتمع فإنه وفي المقابل له آثار أخرى سلبيَّة، ولعل من أبرزها الغش التِّجاري لتصبح ظاهرة عالمية واسعة الانتشار ، تستحق الاهتمام من كافَّة الأجهزة المعنية بمواجهتها.
وقد وصل حجم الغش التِّجاري بمصر إلى 20 مليار دولار سنويًّا، وفي أمريكا بلغ 300 مليار دولار سنويًّا، بينما تصل فاتورة الغش في السعودية إلى ما يقرب من 50 مليار دولار في مختلف المجالات، مثل: المواد الغذائيَّة والاستهلاكيَّة وقطع الغيار للسيارات والإلكترونيات والمواد الكهربائية، والملابس، والجلديات، والمواد الصحيَّة، والمنظفات، والأدوية، وغيرها من المجالات ذات الاستهلاك العالي من قبل المستهلك.
وقد أدرك المشرع المصري خطورة التدليس والغش منذ بداية أربعينيات القرن الماضي فأصدر في شأن مكافحته القانون رقم 48 لسن 1941بشأن قمع الغش والتدليس، وجعل نطاقه شاملا لكافَّة السلع، بما في ذلك أغذية الإنسان والحيوان والعقاقير والنباتات الطبية والأدوية والحاصلات الزراعية والمنتجات الطبيعية والمنتجات الصناعيَّة .
وعلى أثر زيادة حالات الغش في الأغذية وتنامي خطورتها أصدر المشرع المصري قانون قمع الغش والتدليس رقم 84لسنة 1941.
وقد أظهر التطبيق العملي للقانون رقم 48لسنة 1941 عدم مواكبته لجرائم التدليس والغش التِّجاري التي تقع بالنسبة للبضائع؛ مما حدا بالمشرع إلى إحداث بعض التعديلات على أحكامه بالقوانين أرقام 83 لسنة 1948, 153 لسنة 1949, 522 لسنة 1955, 80 لسنة 1961, 106 لسنة 1980.
ورغم هذا لم تستطع هذه التعديلات أن تمنع أو تحد كثيرًا من جرائم الغش أو التدليس الأمر الذي اقتضى إصدار القانون رقم 281 لسنة 1994 بتعديل أحكام القانون رقم 48لسنة 1941 بشأن قمع التدليس والغش.
وقد جاءت أحكام قانون قمع التدليس والغش رقم 281 لسنة 1994 تسري على غش أغذية الإنسان والحيوان والعقاقير والنباتات الطبية والأدوية والحاصلات الزراعية والمنتجات الطبيعية والمنتجات الصناعيَّة ، وجرمها وشدد العقوبات في جرائم غش ، سواء السالبة للحرية أو الغرامة؛ فجعل عقوبة الحبس وجوبية، وزاد عقوبة الغرامة في حديها الأدنى والأقصى عن جرائم غش التجارى المنصوص عليها بالقانون .
ولم يعرف المشرع المصري الغش التِّجاري في قانون قمع الغش والتدليس رقم 281لسنة 1994، لكنه أو رد تطبيقات عديدة تبين مضمون الغش وتحدد عناصره تاركًا ذلك لاجتهادات الفقهاء وأحكام القضاء ، وقد أصاب المشرع المصري بعدم وضعه تعريفًا محددًا؛ حتى لا يكون التقنين قوالب جامدة، فيظل يتسم بالمرونة والتطور الذي يسمح بإدراج كل ما يستجد من أنواع الغش مستقبلًا.
وقد فرق المشرع المصري بين الخداع والغش، حيث نص في المادة الأولى من قانون قمع الغش والتدليس رقم 281لسنة 1994 على مصطلح الخداع للدلالة على فعل الغش والخداع في حين جاءت المادة الثانية بمصطلح للدلالة على فعل الغش بمعناه المادي، كما أنه قرر عقوبة لجريمة الغش أشد من عقوبة جريمة الخداع.
وكان لمحكمة النقض المصرية بالنفض رقم 11ديسمبر 1962- مجموعة أحكام محكمة النقض – س13ص723. دورٌ مهمٌّ في تعريف للغش، حيث أو ضحت أنه” يقع الغش بإضافة مادة غريبة إلى السلعة أو بانتزاع شيء من عناصرها النافعة، كما يتحقق أيضًا بإخفاء البضاعة تحت مظهر خادع من شأنه غش المشتري، ويتحقق ذلك بالخلط أو بإضافة مادة مغايرة لطبيعة البضاعة أو من نفس طبيعتها، ولكن من صنف أقل جودة بقصد الإيهام بأن الخليط لا شائبة فيه أو بقصد إخفاء سوء البضاعة أو إظهارها في صورة أجود مما هو عليه في الحقيقة”.
و قد ساوى القانون بين الغش في المواد وفسادها أو انتهاء تاريخ الصلاحية مع علم الجاني بذلك.
وكذلك مد المشرع المصري نطاق التجريم إلى المواد منتهية الصلاحية في القانون رقم 281لسنة 1994بشأن قمع الغش والتدليس بعد أن كان مقتصرًا على الغش والفساد في القانون رقم 48 لسنة 1941، وقد سوى بينهم في التجريم.
ولقد قررت محكمة النقض المصرية بالطعن رقم 1727 – لسنـــة 29ق – بجلسة 22 / 03 / 1960 حيث ذهبت إلى أنه” يكفي لتحقق الغش خلط الشيء أو إضافة مادة مغايرة لطبيعته أو من نفس طبيعته ولكن من صنف أقل جودة بقصد الإيهام بأن المادة المخلوطة خالصة لا شائبة فيها أو بقصد إظهارها في صورة أحسن مما هي عليه ……” وقد اعتمدت محكمة النقض في هذا القضاء على البند الأول من المادة 6من قانون الأغذية.
حيث نصت المادة (6) من القانون رقم 10لسنة 1966 بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها والمعدل بالقانون رقم 30 لسنة 1976 على أنه” تعتبر الأغذية مغشوشة في الأحوال الآتية:
(1) إذا كانت غير مطابقة للمواصفات المقررة.
(2) إذا خلطت أو مزجت بمادة أخرى تغير من طبيعتها أو جودة صنفها .
(3) إذا استعيض جزئيًّا أو كليًّا عن أحد المواد الداخلة في تركيبها بمادة أخرى تقل عنها جودة.
(4) إذا نزع جزئيًّا أو كليًّا أحد عناصرها.(5) إذا قصد إخفاء فسادها أو تلفها بأية طريقة كانت. (6) إذا احتوت على أية مواد ملوثة أو حافظة أو إضافات غير ضارة بالصحة لم ترد في المواصفات المقررة. (7) إذا احتوت جزئيًّا أو كليًّا على عناصرها غذائية فاسدة نباتية أو حيوانية سواء كانت مصنعة أو خامًا أو إذا كانت ناتجة من منتجات حيوان مريض أو نافق.
(8) إذا كانت البيانات الموجودة على عبواتها تخالف حقيقة تركيبها؛ مما يؤدى إلى خداع المستهلك أو الإضرار الصحي به. ويعتبر الغش ضارًّا بالصحة إذا كانت المواد المغشوشة أو كانت المواد التي تستعمل في الغش ضارة بصحة الإنسان.
– أما قانون حماية المستهلك المصري رقم 181لسنة 2018 فقد عرف في( المادة الأولى البند 10) السلوك الخادع بأنه” كل فعل أو امتناع عن فعل من جانب المنتج أو المعلن يؤدي إلى خلق انطباع غير حقيقي أو مضلل لدى المستهلك أو يؤدي إلى وقوعه في خلط أو غلط”.
وتوسع المشرع المصري في مدلول الخداع التِّجاري؛ إذ ألزمت المادة 9 من ذات القانون المورد أو المعلن تجنب أي سلوك خادع، وذلك متى انصب هذا السلوك على أي عنصر من العناصر الآتية :
1- طبيعة السلعة أو صفاتها الجوهرية أو العناصر التي تتكون منها أو كميتها.
2- مصدر السلعة أو وزنها أو حجمها أو طريقة صنعها أو تاريخ إنتاجها أو تاريخ صلاحيتها أو شروط استعمالها أو محاذيره.
3- خصائص المنتج والنتائج المتوقعة من استخدامه.
4- السعر أو كيفية أدائه، ويدخل في ذلك أي مبالغ يتم إضافتها للسعر وعلى وجه الخصوص قيمة الضرائب المضافة.
5- جهة إنتاج السلعة أو تقديم الخدمة .
6- نوع الخدمة ومكان تقديمها ومحاذير استخدامها وصفاتها الجوهرية سواء انصبت على نوعيتها أو الفوائد من استخدامها.
7- شروط التعاقد وإجراءاته وخدمة ما بعد البيع والضمان.
8- الجوائز والشهادات أو علامة الجودة التي حصل عليها المنتج أو السلعة أو الخدمة.
9- العلامات التجاريَّة والبيانات أو الشعارات.
10- وجود تخفيضات على السعر على خلاف الحقيقة.
11- الكميات المتاحة على المنتجات.
وقد توسعت اللائحة التنفيذية لقانون حماية المستهلك بإضافتها بنص المادة 8 عدة عناصر أخرى يجب على المورد أو المعلن تجنبها والا اعتبر سلوكه خادعا وهي:
1- العبارات أو الاشتراطات المبينة لحقوق المستهلك.
2- الإعلان عن توافر المنتج.
3- الإعلان عن المسابقات دون ذكر رقم تاريخ وإخطار جهاز حماية المستهلك بالمسابقة.
4- الإعلان عن المنتجات التي يتطلب الإعلان عنها تصريحًا من الجهات المختصة دون الحصول عليها.
وكذلك ألزم قانون حماية المستهلك المنتج والمعلن بعدم وضع أية بيانات يكون من شأنها خداع أو تضليل المستهلك، وفي سبيل تحقيق ذلك ألزم القانون المنتج بوضع بيانات على السلع حماية للمستهلك، ومن تلك البيانات اسم السلعة، وبلد المنشأ، اسم المنتج أو المستورد واسمه التِّجاري وعنوانه وعلامته التجاريَّة إن وجدت، وتاريخ الإنتاج ، ومدة الصلاحية للسلع التي لها فترة زمنية لصلاحيتها للاستهلاك، كما ألزم المنتج ببيان شروط التداول والتخزين وطريقة الاستعمال والأنواع والسمات والأبعاد والأوزان والمكونات، ومدة الضمان للسلع المشمولة بالضمان والعمر الافتراضي، كما ألزم المشرع المنتج في الأحوال التي قد تؤدى فيها استخدام المنتج إلى أضرار بصحة وسلامة المستهلك بأن يضع على المنتج ما يبين الطريقة الصحيحة لاستخدامه وكيفية الوقاية من الأضرار المحتملة وكيفية علاجها في حالة حدوثها.
وتوسع المشرع في قانون حماية المستهلك رقم 181لسنة2018 ؛ حيث عرف العيب في السلعة بأنه” كل نقص في قيمة أو منفعة أي من المنتجات بحسب الغاية المقصودة منها، ويؤدي بالضرورة إلى حرمان المستهلك كليًّا أو جزئيًّا من الاستفادة بها فيما أُعِدَّتْ من أجله بما في ذلك النقص الذي ينتج من خطأ في مناولة السلعة أو تخزينها، وذلك كله مالم يكن المستهلك قد تسبب في وقوع هذا النقص
ونحن من جانبنا نرى: أن المشرع المصري قد أصاب فلم يقصر الخداع على التعاقد، بل امتد ليشمل الإعلان عن السلع ، كما توسع قانون حماية المستهلك رقم 181لسنة 2018 في المادة 9 من ذات القانون في العناصر التي ينصب عليها سلوك الخداع، وكذلك منحت المادة مرونة حيث أعطت الحق للائحة التنفيذية إضافة عناصر أخرى . الأمر الذي مكن اللائحة التنفيذية من إضافة في المادة 8 عناصر أخرى.
ويعمل كلٌّ من قانون قمع التدليس والغش رقم 281لسنة 1994 وقانون حماية المستهلك رقم 181لسنة 2018 كمنظومة تشريعية تهدف لحماية المستهلك من الممارسات غير المشروعة وضبط الممارسات التجاريَّة .
لذا يمكننا وضع تعريف موحد للخداع التِّجاري بأنه” كل فعل أو امتناع عن فعل من جانب المنتج أو المعلن يؤدي إلى إظهار السلعة على خلاف حقيقتها، ويكون سببًا لوقوع المستهلك في خلط أو غلط “.
كما نصت المادة 336 من قانون العقوبات على أنه ” يعاقب بالحبس كل من توصل إلى الاستيلاء على نقود أو عروض أو سندات دين أو سندات مخالصة أو أي متاع منقول وكان ذلك لسلب كل ثروة الغير أو بعضها، إما باستعمال طرق احتيالية من شأنها إيهام الناس بوجود مشروع كاذب أو واقعة مزورة، أو إحداث الأمل بحدوث ربح وهمي أو تسديد المبلغ الذى أخذ بطريق الاحتيال أو إيهامهم بوجود سند دين غير صحيح أو سند مخالصة مزور وإما بالتصرف في مال ثابت أو منقول ليس ملكًا له ولا له حق التصرف فيه وإما باتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة.أما من شرع في النصب ولم يتممه فيعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنة، ويجوز جعل الجاني في حالة العود تحت ملاحظة البوليس مدة سنة على الأقل سنتين على الأكثر ” ..
ونحن من جانبنا نرى: أنه نظرا لتطور ظاهرة غش التجارى وما ينتج عنها من تهديد لحياة الأفراد وأمن وسلامة المجتمع مع عدم تناسب العقوبات الواردة في قانون قمع التدليس والغش الحالي رقم 281لسنة 1994 ؛ لذا فإننا نهيب بالمشرع أن يقوم بتعديل أحكام هذا القانون وتشديد العقوبات الواردة به والوصول بها لعقوبة الإعدام لما لهذه الجريمة من آثار ضارة وبالغة على حياة الأفراد وأمن المجتمع ككل على أن يكون هدف القانون الجديد وغايته الأساسية حماية المستهلك جنائيًّا من الغش.
وكذا فأن المشرع المصري لم ينص في قانون قمع التدليس والغش رقم 281 لسنة 1994 إلى مصادرة الربح المتحصل من جرائم الغش، وهذا أمر ما كان ليلتفت عنه المشرع المصري بالرغم من أهميته وما فيه من فائدة تنحصر في رد قصد التاجر المخادع الغاش بمصادرة ما كان يبتغي أن يحققه من كسب غير مشروع؛ ولهذا نهيب بالمشرع المصري أن ينتبه لذلك لما فيه من ردع للجناة مرتكبي هذه الجرائم.