العقل بين التفكير والجمود (أ)

العقل بين التفكير والجمود (أ)

نشر بجريدة الشروق الخميس 6/5/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

بالآيات القرآنية العديدة، والتي استعرضنا بعضها سلفًا، تقررت فريضة التفكير في الإسلام، ويبين منها أن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يدرك الحقائق ويميز بين الأمور ويوازن بين الأضداد ويتبصر ويتدبر ويحسن الادكار والرواية، ويعصم الضمير، وأنه بهذه الصفات يقابل الجمود والعنت والضلال.

وليس قصارى العقل بهذه الصفات أن يكون مقابلاً للجنون الذي يسقط التكليف، وإنما هو العقل الذي يدلى بمرتبة في التفكير أعلى من مجرد المرتبة التي تدفع الملامة أو تمنع من المؤاخذة. وتبدو هذه الغاية في آيات متعددة بالقرآن، منها قوله تعالى: « وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا » ( البقرة 269)، وقد كانت هذه هي غاية الأنبياء الذين يطلبون الرشد ويبتغون علمًا به من عباد الله الصالحين.

لا كهانة !

ومن الواجب التفطن إلى أن هذا التنويه بالعقل الذي لم يأت في القرآن عرضًا، إنما كان نسقًا يستلزمه لباب الدين وجوهره.

فالدين الإسلامي لا يعرف الكهانة ولا يقبلها، ولا يتوسط فيه سدنة أو أحبار بين المخلوق والخالق، ولا محل فيه لقربان يقدم في المحاريب، ولا مكان لأي وساطة عن طريق الكهان، وإنما يتجه الخطاب إلى عقل الإنسان حرًّا طليقًا بلا وصاية ولا سلطان لهياكل ولا محاريب ولا لمن يدعون الوساطة أو الحديث باسم الله.

يقول تعالى: « فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ » ( البقرة 115 ).

وحيث لا هيكل، فإنه لا كهانة !

وإنما يتجه خطاب الدين إلى الإنسان العاقل الحر الطليق من كل سلطان يحول بينه وبين الاتجاه إلى ربه أو يقعده عن الفهم القويم والتفكير السليم..

ففي الإسلام.. « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ » ( الإسراء 13).

وأن « كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ » ( الطور21 ).

وأنه « لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى » ( الأنعام 164).

وعلى هذا النحو يتناسق جوهر الإسلام ووصاياه، ويكون الدين الذي تصل العبادة فيه بين الإنسان وربه بغير وساطة ولا محاباة، ويحاسب فيه الإنسان بعمله لا بعمل سواه، وحسبما يهديه إليه عقله المطلوب منه أن يبلغ وسعه من الحكمة والرشاد.

الموانع والأعذار

مقتضى الأمر بإعمال العقل، مرضاة للخالق، ألاّ يعطله المخلوق إلاّ لمانع أو ضرورة أو عذر فيما يخرج عن إطار استطاعته.

والموانع التي تعطل العقل كثيرة، استقصاها القرآن الحكيم كما استقصى ملكات العقل ووظائفه، وهذه الموانع الكثيرة التي تعطل العقل ـ ترتد إلى ثلاثة موانع كبرى.. أكبرها عبادة السلف أو العرف، والاقتداء الأعمى بأصحاب السلطة الدينية، والخوف المهين من أصحاب السلطة الدنيوية.

فالإسلام لا يقبل من المسلم أن يلغى عقله ليجري على سنة آبائه وأجداده، أو خنوعًا لمن يسخره باسم الدين في غير ما يرضى العقل والدين، أو أن يلغى عقله خوفًا ورهبة من بطش الأقوياء وطغيان المستبدين..

وهو في هذا التكليف، لا يُكَلَّف بالشطط، وإنما بما هو في وسعه واستطاعته.

« لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ٌ» ( البقرة 233).

« لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا » ( الأنعام 152 والأعراف 42 والمؤمنون 62 ).

« لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا

بِهِ » ( البقرة 286).

وما من أحدٍ يعمل عقله ويهتدى به ويصعب أو يمتنع عليه أن يرى الصواب وأن يكف عن الخطأ.

والموانع أو الأعذار سالفة البيان، لا قيام لها إلاّ إذا هان على الإنسان أن يهمل عقله وأن يعيش بغير عقل !

حق العقل

وحجة دحض العرف الفاسد !

وحق العقل في الإسلام، يقاس بمدى قدرته على التصدي لكل قوة تصده عن سبيل الحق والهداية، وكان أقواها في صدر الإسلام قوة العرف أو عبادة السلف وما يصاحبها من عادات تعد مخالفتها تسفيهًا لأحلام الآباء والأجداد واستخفافًا بعقولهم.

والإسلام حين يأبى على الإنسان أن يعنو بعقله لهذه السطوة الجائحة، إنما يعطيه حقه في مقاومتها، ويمده بالحجة التي تعينه على كشف زيف هذه السطوة، وقد تعددت آيات القرآن الحكيم في دحض مانع العرف وعبادة السلف، من مثل قوله تعالى: « أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ » (البقرة 170)، وكقوله: « أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ » (المائدة 104)، وكقوله: « وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » ( الأعراف 28 )، وكقوله: « إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ » ( الصافات 69، 70 )، وكقوله تعالى: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ » ( التوبة 23).

وقد حذر الإسلام تحذيرًا شاملاً من فساد الكهان والأحبار، وأبطل سلطانهم على الضمائر، ونفي ادعاءهم القدرة على التحريم والتحليل والإدانة والغفران. ونبه إلى سوء عاقبة الاستسلام لخداعهم.

« اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ » (التوبة 31).

« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ » ( التوبة 34).

ولم يغفل القرآن الحكيم التنبيه إلى فضل الصالحين من الرهبان والقسيسين على أممهم، فجاء بسورة المائدة: « وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ » (المائدة 82).

إزالة مانع الخوف من السلطة الدنيوية

وكما حمى القرآن ـ المؤمنين من سلطان الكهانة، ومن سلطان عبادة الأسلاف والعرف الفاسد، حماهم من الاستبداد والمستبدين، ومن تسلطهم بغير ما يرضى العقل والحق والدين. بل وَحَّذر من الاستضعاف أمامهم، فقال في عتاب من بقوا بمكة ممن أسلموا ثم خرجوا مع المشركين لقتال المسلمين واعتذروا بأنهم كانوا مستضعفين، فجاء بسورة النساء: « قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا » ( النساء 97 )

والإسلام الذي انتصر للعقل وأمر باستقلال النظر في مواجهة عبادة السلف، وسلطان الكهان والأحبار، ومواجهة الاستبداد ـ هو هو الذي امتاز بين الأديان بوصاياه بتوقير الآباء والرجوع فيما لا يُعْلم إلى أهل الذكر، والطاعة لولاة الأمور ما كانوا في طاعة الله.

وبر الآباء واجب في غير الضلال والشرك بالله، والرجوع إلى أهل الذكر الذين يُنْتفع بعلمهم، وطاعة الولاة تكون في غير المعاصي، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وقوام الأمر كله في جميع التكاليف، أن حساب النفس يجرى في إطار القدرة والاستطاعة، ولا يتجاوزها .

وصفوة القول، أن الإسلام لا يعـذر العقـل الذي ينزل عن حق الإنسان رهبةً أو خوفًا من القوة أو استسلامًا للخديعة , وفي حدود الطاقة البشرية للفرد.. لا تتعداه.

زر الذهاب إلى الأعلى