
الصلح في جرائم الدم
مقال بقلم د. أشرف نجيب الدريني
هل يمكن لنص يبدو في مظهره إجرائيًا بحتًا أن يُخفي في داخله طبيعة عقابية تُعيد تشكيل سلطة القاضي الجنائي؟ وهل يمكن للصلح في جرائم الدم، الذي يُفترض أن يعكس إرادة إنسانية حرة ورغبة في إنهاء الخصومة، أن يتحول إلى أداة تشريعية تُقيد سلطة المحكمة وتجبرها على النزول بالعقوبة دون تقدير لملابسات الجريمة وظروفها؟ ومن هم الورثة الذين يملك كل منهم حق قبول الصلح؟ وهل يُشترط الإجماع، أم تكفي الأغلبية، أم يكفي فرد واحد؟! وكيف يمكن للقانون الأصلح للمتهم أن يعمل بصورة عادلة في ظل وجود فجوة زمنية بين صدور القانون ونفاذه، بحيث يستفيد متهم ويحرم آخر، رغم وحدة الفعل الإجرامي؟ وهل يفتح هذا النص بابًا لطبقية جنائية تجعل التخفيف متاحًا لمن يملك القدرة المالية بينما يظل غير المقتدر رهن العقوبة الكاملة؟ وهل ما زالت السلطة التقديرية للقاضي سلطة حقيقية أم أصبحت سلطة مُغلّفة تخضع لحدود جامدة فرضها المشرّع؟
إن المادة 22 من قانون الإجراءات الجنائية تطرح هذه الأسئلة بحدة، لأنها تقدم نموذجًا فريدًا لنص إجرائي يتجاوز وظيفته الإجرائية، ويتحول إلى نص “عقابي” يمس جوهر تقدير العقوبة. فهي تُلزم القاضي، بمجرد تحقق الصلح قبل الحكم البات، بالنزول بالعقوبة درجة أو درجتين وفق المادة 17 من قانون العقوبات، حتى لو كانت العقوبة أصلًا هي الإعدام. وهذا الإلزام لا يترك مجالًا للسلطة التقديرية التي أُنيطت بالقاضي تاريخيًا لتقدير خطورة الفعل الإجرامي وملابساته ودرجة العنف فيه. هنا يصبح القاضي منفذًا لحكم قانوني مفروض، لا صاحب سلطة تقدير فردي، وهو ما يتعارض مع فلسفة التفريد العقابي التي يقوم عليها النظام الجنائي.
وإذا كانت هذه الطبيعة العقابية الخفية في المادة 22 تثير قلقًا مشروعًا، فإن مسألة الورثة تزيد المشهد غموضًا وتعقيدًا. فالنص لم يحدد من هم الورثة الذين يحق لهم إبرام الصلح: هل هم الورثة الشرعيون جميعًا؟ هل يكفي موافقة أحدهم؟ هل يُشترط الإجماع أم الأغلبية؟ وهل يملك الوارث الصغير أو غير كامل الأهلية هذا الحق؟ وهل يمكن فصل الحقوق المالية عن الحقوق الجنائية؟ هذا الغموض القانوني يفتح أبوابًا واسعة للنزاع والتلاعب ويخلق حالة من عدم اليقين، خصوصًا في القضايا التي يكون فيها عدد الورثة كبيرًا أو تكون العلاقات العائلية فيها مضطربة أو تتداخل فيها مصالح متعددة. والأسوأ من ذلك أن النص يسمح موضوعيًا- وليس قصدًا- بولادة “طبقية جنائية”: فمن يملك القدرة المالية يستطيع الوصول إلى ورثة المجني عليه والتفاوض معهم وإبرام الصلح، وبالتالي الحصول على تخفيف جوهري للعقوبة، بينما يبقى غير المقتدر بلا فرصة حقيقية للاستفادة من هذا النظام.
ويزداد الأمر تعقيدًا عند النظر في تطبيق القانون الأصلح للمتهم. فإذا صدر القانون في 1 أكتوبر 2025 ولم يدخل حيز النفاذ إلا في 1 أكتوبر 2026، فإن المحكوم عليهم قبل هذا التاريخ يُحرمون من الاستفادة بالصلح، بينما يحظى من صدرت أحكامه بعد النفاذ بميزة تخفيض العقوبة. هذا الفارق الزمني، رغم بساطته الشكلية، يؤدي إلى تمييز موضوعي بين متهمين ارتكبوا أفعالًا متماثلة، لكنه يجعل أحدهم يتمتع بميزة تشريعية دون الآخر، وهو ما يمسّ جوهر المساواة أمام القانون. وهنا يثور التساؤل حول نطاق تطبيق مبدأ القانون الأصلح للمتهم: فالمعروف فقهيًا وقضائيًا أنه يُطبّق في نطاق القواعد العقابية دون القواعد الإجرائية، لكن خصوصية المادة 22 تكمن في أنها- رغم تموضعها داخل قانون الإجراءات—تحمل في جوهرها طبيعة عقابية صريحة لأنها تُنشئ تخفيضًا وجوبيًا في العقوبة. ومن ثم فإن الاحتجاج بالطابع الإجرائي الخالص لا يصلح لإقصاء هذا النص من دائرة القانون الأصلح، ما دامت نتيجته عقابية خالصة تؤثر مباشرة في مصير المتهم. وهذا ما يجعل الفجوة الزمنية بين الصدور والنفاذ ليست مجرد تفصيلة شكلية، بل مسألة تمس حقوقًا جنائية أصيلة، وتفرض إعادة التفكير في آليات تطبيق مبدأ الأصلح للمتهم ضمانًا للعدالة وعدم التمييز.
وكما تكشف المادة 22 أن هذا النظام، رغم أنه يعكس رغبة تشريعية في تعزيز قيم الصلح والإصلاح، إلا أنه حمل معه نتائج لم يكن المشرّع يقصدها، أبرزها المساس المباشر بالسلطة التقديرية للقاضي، والتمييز العملي بين المتهمين حسب القدرة المالية، والاضطراب في تحديد الورثة، وصعوبة تطبيق القانون الأصلح للمتهم بطريقة تحقق العدالة الكاملة.
وعندما نعود إلى الأسئلة التي بدأنا بها، نجد أن المادة 22 بالفعل تمثل نموذجًا للنص الذي يبدو إجرائيًا من الخارج لكنه يحمل طبيعة عقابية صريحة تؤثر على جوهر الحكم. والصلح، بدلًا من أن يكون وسيلة لتخفيف التوتر الإنساني، أصبح أداة تشريعية ملزمة تعيد تشكيل جسد العقوبة. والورثة، بدلًا من أن يكونوا أصحاب حق طبيعي، أصبحوا عنصرًا غامضًا قد يؤدي غموضه إلى اضطراب العدالة. والقانون الأصلح للمتهم، بدلًا من أن يكون ضمانة، أصبح في ظل الفجوة الزمنية سببًا في مفارقة. والسلطة التقديرية للقاضي، التي كانت ركنًا أساسيًا في التفريد العقابي، أصبحت محاطة بقيود تشريعية تجعل حرية التقدير أضيق مما ينبغي.
هذه النتائج مجتمعة تجعل المادة 22 بحاجة حقيقية إلى إعادة تقييم تشريعي شامل، يزيل الغموض، ويعيد التوازن بين حق الدولة في العقاب وحق المجتمع في التصالح، ويحمي مكانة القاضي كصاحب سلطة تقدير، ويضمن مساواة المتهمين في الحقوق، ويغلق الباب أمام التشوهات التطبيقية التي قد تقود إلى طبقية جنائية أو تفاوت غير مبرر في الأحكام. فالنص، بصيغته الحالية، لا يجيب عن تساؤلات العدالة، بل يعيد إنتاجها، مما يستدعي أن تكون مراجعة المادة 22 خطوة ضرورية لاستعادة الانسجام بين روح القانون ومقتضيات العدالة الجنائية. والله من وراء القصد.